-1-يواجه التعبير التشكيلي المغربي في المرحلة الراهنة من حياته،
إشكالية أساسية، تتجسد في الموافقة بينه وبين الفنون المغربية التقليدية: المعمار/
النسيج/ النحوت
الحجرية والخشبية/ النقوش/ التزاويق/ الخزف/ الصياغة… وغيرها من
الفنون التقليدية التي شكلت/ تشكل هوية ثقافية، لا خلاف ولا اختلاف في أهميتها
وموقعها الحضاري والثقافي.
وقبل أن نحادي هذه “المنطقة” الساخنة من الحركة التشكيلية
المغربية، لا بأس من الإشارة إلى أن التراث الجمالي المغربي (الأمازيغي/ الإفريقي/
العربي/ الإسلامي) كان دائما وباستمرار، قيمة مرجعية للعديد من الفنانين المغاربة
وسيبقى بلا شك عنصرا أساسيا في تحديد مفاهيم الهوية التشكيلية لديهم، حتى وأن
استندوا في أعمالهم الإبداعية من حيث الشكل، إلى رؤية جمالية غربية، ذلك لأن
التراث هو ما كان قائما في الماضي، من ثقافة وفنون ومعارف وبدائع وصنائع وحرف
وإبداعات/ هو تركة أو إرث عام وجدناه في طريقنا/ في حياتنا/ في ثقافتنا العامة،
وهو أيضا ماض نحمله معنا في حاضرنا، كما أنه مستقبل موسوم ننقله بالتبعية إلى
أجيالنا الصاعدة… والتراث باختصار شديد، هو الماضي الذي لا يمضي، هو كل آت من
الماضي، من لباس ومعمار وموسيقى وألعاب وغناء، وتقاليد وقيم، وهو ما وصلنا من فكر
وفلسفة وآداب وإبداع من الماضي الذي يحمل المستقبل في طياته.هكذا نرى، إن الفنان
المغربي، وبعد أن جرب خلال القرن المنصرم، كل أشكال التعبير التشكيلي الحديث،
بصيغه الغربية المختلفة، في سبيل التواصل مع الحداثة، ومن أجل إيجاد ذاته/ هويته،
نجده في حالة وعيه المتأخر للإشكاليات الثقافية المترابطة حوله، يعود إلى التراث
الماضي، رموزه وألوانه وصيغه ومفرادته، ينبش في أغواره، لعله يجد في فضاءاته، تلك
الذات/ الهوية، التي كادت تضيع من عمله الإبداعي، في زوبعات المدارس والاتجاهات
والمذاهب التشكيلية الغربية الغازية، التي هيمنت بكل الوسائل والإمكانات على
الثقافات الأخرى، ومن ضمنها الثقافة المغربية.
إن الفنان المغربي اليوم، سواء كان يبدع انطلاقا من تراثه
التقليدي، أو انطلاقا من مفاهيم الحداثة الغربية، فإنه لا يستطيع ممارسة فنه/
إبداعه، خارج القاعدة الأوربية المنشأ، أي اللوحة ذات الحامل، وهو ما يعني بوضوح،
أن ما ينتجه (هذا الفنان) يستجيب لمفاهيم الفن الحديث بشكله الأوربي، في مدارسه
وتأثيراته، ولكنه أصبح يتحول إلى ذاكرة بصرية تعكس أحاسيسه ومشاعره ومخزونه
الجمالي.في نظرنا لا يوجد عمل فني بلا جذور/ بلا فكرة، يبرز المنطق الجمالي
لمبدعه، ذلك لأن العمل الفني لا يعود فقط إلى عناصره الحرفية/ التقنية/ الفنية،
ولكن بالأساس إلى جذوره الثقافية/ إلى هويته.الفن الحديث، الذي ليس له أي تفسير
اديولوجي، أو الذي لا يستخدم أي هدف، فإنه يستند دائما على فكرة تستمد قوتها
وهويتها من الجذور، من ثقافة الفنان ومفاهيمه الإنسانية والحضارية.
والحداثة، حتى وإن كانت نقيض التراث أو ضده… فهي من يرى في التراث
على أهميته في التاريخ والثقافة، شيئا غير قابل للاستعمال، ليس لأنه ينتمي إلى
الماضي، ولكن لأن صلاحيته في نظر “أنصارها”، انتهت في الزمان والمكان.والحداثة في
هذا النوع من الفهم والقراءة التشكيلية، تسعى إلى قطع كل صلة بالماضي، وعدم
الالتفات إلى الوراء، أو التطلع بحرية مطلقة إلى الأمام… ومن ثمة تصبح الحداثة
التشكيلية في المطلق… بحث لا تقوم على مصادر أو اتجاهات ولكنها تقوم على رؤى تنطلق
من الذات… لتبحث في الذات.ففي مثل هذه الظروف يعول على الفن، للقيام بدور أساسي
وكبير في رفد الإنسان بعالم غني وجديد، شأنه في ذلك شأن الإيديولوجية والسياسية،
والثقافة في مفاهيمها الواسعة والشاملة، لذلك ستحاول هذه القراءة المختصرة
والمكثفة، الاقتراب من النماذج الإبداعية التي رفضت السعي وراء التقنيات السهلة،
والتي جددت ارتباطها بمصادر وموارد الهوية الثقافية المصوغة بالقيم الروحية
العربية والإسلامية، في محاولة للاقتراب من عالم الإشارات والرموز والوحدات
الهندسية والتقاليد التي ظلت شاهدا على مناعة الهوية التراثية، واستمراريتها .
-2-
وبمراجعة متأنية للتجارب التشكيلية المغربية، التي تعاملت مع
التراث المغربي في تنوعاته المختلفة، سنجد أن الفنان المغربي قد تداخل في وقت
مبكر، مع كل أصناف التراث، من الحرف العربي/ الأمازيغي، إلى المعمار الحضري/
القروي/ الصحراوي/ الإفريقي، ومن النقوش التقليدية وفنون الحفر والنقش والنحت،
العربية المشرقية إلى فنون الخزف والنسيج، إلى فنون الوشم والفسيفساء والتطريز
وغيرها من الآثار الإسلامية.إن ما تركته الحضارات والعصور المتعاقبة على الجغرافيا
المغربية من آثار ومن ثراء إبداعي، في العمارة والنحت والحرف والفنون، من رقي
وتمدن، تجعل المبدع التشكيلي المغربي أمام تراكمات إبداعية، لا تشكل له فقط ذاكرة
بصرية تعكس أحاسيس ومشاعر الأجيال المتعاقبة على هذه الأرض، ولكنها أيضا تضعه
بأحاسيسه ومشاعره داخل متحف كبير، يزخر بالأوابد والشواهد من كل العصور والعهود
الفنيقية والرومانية والبيزنطية والعربية والإسلامية، وهو ما أعطى/ يعطي لهذا
المبدع هويته وحضوره الثقافي.
لذلك، يرى العديد من النقاد والباحثين، في الشأن الثقافي/
التشكيلي، أن عودة الفنان التشكيلي المغربي إلى تراثه، لم يكن فقط من أجل التعبير
عن مكبوتاته الإبداعية، وإنما –أبعد من ذلك- كان من أجل التعبير عن حنينه إلى
ماضيه البعيد/ القريب، ومن أجل بحثه عن أسلوب تشكيلي ذاتي، أكثر ارتباطا والتصاقا
بهويته، يميزه عن أسلوب المدارس الغربية، إلا أنه في كل ذلك لم يتوصل حتى الآن إلى
خلق/ إيجاد فلسفة فنية نابعة من هذا التراث العظيم، ومن جذوره العريقة/ لم يستطع
إيجاد خطاب مميز لطروحاته التشكيلية، ولكنه دخل المغامرة، وانخرط في ذاتيته
العريقة، وهو ما يجعل تجاربه التشكيلية المرتبطة بالتراث، ارهاصات، لم تتبلور في
الكثير من مناحيها، فيما يمكن أن نطلق عليه مدرسة/ أو اتجاها في الحركة التشكيلية
المغربية، ولكنها فتحت الباب أمام البحث والاجتهاد الذي من شأنه أن يجعل من هذه
المرحلة، مدخلا أساسيا لتاريخ تشكيلي جديد.
-3-
في واقع الأمر، أن الفنان التشكيلي المغربي، بالاضافة إلى معاناته
من أجل الخروج/ الابتعاد عن هذه الإشكالية، يعاني من اشكاليات أخرى تتصل بمواجهاته
اليومية والدائمة. لقوتين متناقضتين: التقاليد المحلية، ومن ضمنها تراثه المحلي
الذي ما زال قائما سائر المفعول، وتوسلاته للحداثة والتحديث، التي تفرض نفسها عليه
وعلى رؤاه الإبداعية، بكل الأساليب والطرق والامكانيات.ولأن الفنان، شاهد عيان،
متعهد لمجتمع متغير باستمرار، ومتبدل باستمرار، لا يريد أن يتخلى عن السباق الجامح
لتصفية التخصصات والتحولات التي خلقت المعاصرة والتحديث، والتي تجعل من التراث في
آخر المطاف وعيا ذاتيا لا مفر منه لإثبات الهوية… ولإثبات الذات.ففي هذا المجال،
نجد الفنان المغربي، لم يستطع حتى الآن التحرر من التمزقات العديدة التي تواجه
بحثه في المجال التراثي، كما لم يستطع الإفلات من الحواجز والفواصل التي تواجه
عقله في هذا البحث، فالعديد من الفنانين المغاربة الذين أرادوا تعميق نظرتهم إلى
التراث وفضائه الثقافي/ الاجتماعي/ الفني، قصد الوصول إلى حلول تجديدية، قد دفعهم
خضوعهم لهذه النزعة في الكثير من أعمالهم، إلى الاقتراب من الفطرية، دون أي روابط
ظاهرة تشدهم إلى فلسفة وقيم التراث المتراهن عليه، مما يكشف عن سمة ثقافية ناتجة
عن اغتراب ذاتي، رغما عن المهارة المدرسية/ الأكاديمية، التي يمتاز بها البعض
منهم، خاصة الذين ساهموا بشكل أو بآخر في تقييد وحصر مفهوم الفن باستعارتهم
الطريقة الأكاديمية المحضة للتعبير عما يلج في نفوسهم من صور وانعكاسات، ومفاهيم…
-4-
عندما نطرح هنا مسألة تأصيل اللوحة المغربية تراثيا، بسماتها
وطابعها ومميزاتها وتفردها، نجد الكثير من الأعمال التي تنتمي للحركة التشكيلية
المغربية تحاول الاتكاء على هذه السمة، سواء في سيكولوجية اللون أو في أبعاد الخط
والزخارف والنقوش والرموز أو في تعاملها مع الوحدات الهندسية/ المعمارية والزخرفية
الأخرى، للوصول إلى هدف المغربة/ التعريب/ والتأصيل.فالتراث، من وجهة نظر هذه
الأعمال، هو المحصلة النهائية للجهد الجمعي عبر أحقاب التاريخ المتتالية، والذي لم
يتح لنا، بحكم موقعنا الزمني/ التاريخي مشاهدة ما تبقى منه، في الإنسان، وفي
الطبيعة، وفي المعمار، وهو بهذه الصفة يشكل أحد الجسور القوية التي تربطنا
بالماضي، والمستقبل في نفس الآن.
وبالنسبة للمغرب، الذي يعتبر منبعا هاما من منابع العطاء الانساني
منذ ما قبل التاريخ، وحتى اليوم يستطيع الفن التشكيلي في الزمن الراهن، من وجهة
نظر هذه الأعمال، إن يرصد الإرث الحضاري بكل تفاصيله، ليس فقط عبر الشهادات
الكثيرة المتبقية على الطبيعة، ولكن أيضا على مساحة المجتمع المغربي الذي ما يزال
رغم التغيرات الطارئة، يحتفظ بتقاليده الذاتية والتراثية الكثيرة، مما يجعل هذا
الرصيد مجالا حيويا، إبداعيا، طليعيا، في استطاعته تأسيس رؤية جديدة للفنون
التشكيلية، ولبيئتها.
من هنا، تأتي الأسئلة المحورية الصعبة، التي يتصل بعضها بكيفية
التعامل مع التراث… ويتصل بعضها الآخر، بمستوى هذا التعامل.إلى أي مدى كان الفنان
المغربي واعيا بأهمية تراثه الحضاري/ الثقافي من أجل بلورة وتكريس هويته
الإبداعية؟كيف له أن يحقق المعادلة الجادة بين الأصالة والمعاصرة في تعامله مع هذا
التراث؟وأين يقف من الشروط الموضوعية التي يتمحور حولها تعامله مع تراثه/ هويته؟
-5-
إن أعمال الفنانين أحمد الشرقاوي/ محمد المليحي/ ميلودي/ محمد
حراك/ ابراهيم حنين/ عبد الله الحريري/ محمد البوكيلي/ لطيفة التيجاني/ أحمد
بلمقدم/ مصطفى السنوسي/ عبد الحي الملاخ/ وغيرهم()، تقدم لنا في الكثير من
نماذجها، صيغا متفاوتة للحروفية العربية/ الأمازيغية، أنها في تعايشها “لهذا
التراث” حاولت/ تحاول إن تحكى بأساليب مختلفة، الأساليب والرؤى لتراثها المميز/
لتاريخها الحضاري العريق().ولأن ما حققته أعمال هؤلاء الفنانين من جاذبية، كان مبهرا
للعين، داخل الفضاءات المغربية وخارجها، استطاعت بسهولة جذب العديد من الأسماء
الشابة في المجال التشكيلي إلى فضاءات هذا التراث، وهو ما أعطى الحروفية حضورا
وازنا في المشهد التشكيلي المغربي، يمكن قراءته نقديا/ جماليا ثقافيا، بصيغ
متعددة، ما للحرف العربي/ الأمازيغي من شحنات فنية لا حدود لها/ ولما له من
إيحاءات وتصورات وخيالات وإيقاعات متحركة، لا حدود لها أيضا.ولابد من الإشارة هنا،
أن أعمال الفنانين الشباب الحروفية، لا تنفي عن نفسها صفة البحث عن صيغ إبداعية
تؤدي بها إلى فهم أحسن وأفضل لدورها الثقافي في المرحلة الراهنة، إنها من جهة تتيح
للقارئ التشكيلي المهتم والباحث المختص، مادة خصبة ترية، للتعرف على خصائص
هذا التراث، ومقوماته الفكرية والفنية.
ومن جهة ثانية تعكس الاهتمام الفني بقضية التناغم الثقافي
والاجتماعي والإنساني في المجال التشكيلي المعاصر، مؤكدة على وعي الجيل الجديد من
الفنانين بالقضية التراثية الشاملة في ثقافتنا العربية المعاصرة.
-6-
على مستوى التراث المعماري الإسلامي، تستوقفنا في هذا الاتجاه
نماذج حسن العلوي/ محمد السرغيني/ محمد جريد/ محمد الحمري/ مصطفى بوعبيد/ مريم
مزيان (من الرعيل الأول)/ ليس فقط بغناها اللوني أو بحرفيتها المتفوقة، ولكن أيضا
بإلحاحها الشديد على تسجيل التراث المعماري/ الهندسي، عبر الشهادات التي مازالت
متبقية على الطبيعة.
من خلال أعمال هؤلاء الفنانين، نتعرف على الوحدات الهندسية، التي
انطلقت أشكالها قبل مئات السنين في المدن والقرى العتيقة، أو في الصحاري البعيدة،
عبر الآثار البربرية/ الإفريقية، أو عبر حضارة الشرق/ حضارة الأندلس بكل تفاصيلها
الجمالية/ النفسية/ الروحية، باعتبارها تراثا وطنيا عريقا، يجسم لنا ملامح هويتنا
الثقافية.فمن خلال الأقواس والقباب والمنحنيات والمنمنمات والنوافذ والنحوث
والنقوش الخشبية والنقوش الجبسية والحجرية والمسطحات الجمالية، يمزج هؤلاء
الفنانين بحيوية، الماضي، عبر مداخل بصرية واضحة (تركيبية) تتجه إلى الجذور
الهندسية: الدوائر/ الخطوط العريضة الرأسية والأفقية ليستخرجوا منها صورة ذلك
الماضي بهندسيته ومناعته، إن الوحدة الهندسية في الكثير من هذه الاعمال كالفكرة
الواحدة، تنتقل من بعد لآخر، وتربط الصورة بالصورة والفضاء بالفضاء في هارمونية
شديدة الشبه بالهندسية الثقافية/ الجمالية المستهدفة.
الأمر لا يختلف عند الفنان الفطري محمد بن علال، وخاصة في أعماله
التكوينية، إنه على إغراقه في التسطيح، حاول أن يتعامل مع الوحدات الهندسية من
خلال إشكالها المتداخلة، ومن خلال تناغمها اللوني، ليعبر -انطباعيا- عن جذور
الماضي بوضوح انتمائي.
إن عنصر الاختلاف الوحيد بينه وبين باقي الفنانين في هذا الاتجاه،
يتجلى في إصراره على تجميد الزمن في حين يصر حسن العلوي/ جريد/ بوعبيد على تحريك
الزمن وانطلاقته حيا على القماش. الزمن هنا لا يعني مطلقا إثبات هوية العصر الذي
تعبر عنه اللوحة، بقدرما يعني استفادته من سمة التفتح التشكيلي، فالقباب والصوامع
والفتحات الجذارية والأقواس، تبقى في نهاية المطاف عند المرحوم محمد بن علال رموزا
ماضوية ساكنة، تجمد الماضي بشكل ملفت للنظر وتقدسه، أكثر مما تستقرؤه أو تنخرط في
عوالمه.-
في هذا المضمار، تشكل أعمال الفنانين عزيز برحو/ عزام مدكور/
المرحوم محمد دواح، نسيجا مستقلا ونقلة نوعية في مجال البحث التشكيلي التراثي. إن
الرموز التراثية، الممتدة من الحرف إلى القباب، ومن الفضاء إلى النقوش، والتي
تنبعث كالاشارات الضوئية من خلفيات المشاهد، التي تتوضح شيئا فشيئا في الأحجام
الأمامية، وتتوحد مع نسيج الذكريات الطفولية الخاصة، (مسجد/ سور المدينة/ البيوت
الطينية/ النقوش الصحراوية العربية)، إذ تصبح الصورة البصرية (تجريديا) مجزأة إلى
تفاصيل صغيرة، على امتداد لوني/ تشخيصي، تعطى الانطباع أن الأسس البنائية في هذا
البحث لا تستمد وعيها من التراث الماضي الذي ما يزال متحركا حيا في البيئة
المعاصرة فحسب، وإنما تستمده من قيمة هذا التراث نفسه.الاختلاف الشكلي/ الأسلوبي/
المدرسي بين الفنانين الثلاثة، لا يمس تعاملهم مع التراث وحده، وإنما يمتد إلى
الرؤى الفنية الذاتية، وهذا في حد ذاته يعد مكسبا مهما لاستقلالية هؤلاء الفنانين،
فالاختلاف في الرؤى والتعامل لا يمس التراث في هويته وجوهره، بقدرما يتجه إلى
تسجيل ورصد هذا التراث من خلال رؤاهم الفنية الذاتية.ينخرط في هذا الاختلاف من
جانب آخر، الفنان أحمد قريفلة والفنان إبراهيم عامري.
لأول يمزج “الوحدة الهندسية” بالكائن البشري، من خلال الخطوط
العريضة والعناصر الأساسية لتفكيره وتعامله مع التراث، وتأثره به.والثاني يختصر
الوحدة الهندسية في مدخل عام، يطل من خلاله على التحولات التي طرأت على هذه الوحدة
من خلال تشكيلها التجريدي.إن رؤيتهما الأسلوبية لا تتصل في أعمالهما التشكيلية
برؤيتهما للتراث، وإنما تنفرد بنزوعها إلى التعبير عن العلاقة المميزة بين الفنان
المبدع، وتراثه، واستجابتها لدواعي الفطرة وقوانين الحياة المتحركة، إنهما يرفضان
الحدود بين هذا الكائن وفضائه التراثي يلتجئان إلى التخريج والتلبيس والتأويل، وإلى
اختصار هذا التراث في رموزه التجريدية المميزة، ولكنهما ضمن هذا “الاختصار”
يغامران في قراءة تكاد تكون منهجية من حيث الطرح، والاستقصاء… وتكاد تكون موحدة في
الأسلوب وفي طريقة هذا الطرح/ الاستقصاء.
-7-
الاختلاف في الرؤى يمكن أن يمتد في هذه القراءة بعيدا، وإلى مساحة
أكبر عندما نريد أن نخضع أعمال الفنانين الذين اشتغلوا على التراث، من خلال
فطريتهم الذاتية، التي جعلتهم يحتلون مراكز مختلفة ومتباينة في الحركة التشكيلية
المغربية. إن مولاي أحمد الودغيري/ مولاي أحمد الإدريسي/ فاطمة حسن/ مولاي علي
العلوي وغيرهم كثير، يلتقون في رؤيتهم الشاملة للتراث… ولوحداته الهندسية على
الخصوص، من خلال هذه “الفطرية”، ولكنهم مع ذلك يختلفون بقوة في قراءتهم الذاتية
لهويته الثقافية.وعلى أن هذا الاختلاف، شديد للغاية، وبين الغاية، سواء على مستوى
الاستيعاب والتعامل، أو على نطاق التنظير الإبداعي، فإنه من وجهة نظر خاصة، يعتبر
ظاهرة صحية، تضع هذا التراث بكل إشكالاته ومواصفاته، محل حوار بين أعلام الحركة
التشكيلية المغربية في مختلف توجهاتها الفنية والثقافية، وبالنسبة لكل أجيالها/
شبابها، وروادها الأول، وتجعل من هذا التراث، ميدانا فسيحا للبحث والاستقصاء
باعتباره قضية مركزية وأساسية في حركة الفكر التشكيلي المعاصر.
-8-
وعلى مستوى التراث البيئي المغربي، تستوقفنا نماذج هامة ومعبرة
لفنانين ينتمون لمختلف الأجيال والمدارس والاتجاهات التشكيلية، نذكر من بينهم محمد
علي الرباطي/ فاطمة حسن/ الشعبية طلال/ مولاي احمد الودغيري/ فاطمة الودغيري/
المكي مغارة/ محمد اللساني/ محمد الرايس/ مولاي احمد العلوي/ محمد السرغيني وغيرهم
كثير من الذين اشتغلوا على التراث البيئي المغربي، والذين التقطت أعمالهم العديد
من الرموز التراثية بالمدن/ القرى/ القلاع/ القصور/ الأسواق/ الحارات، اضافة إلى
التقاليد الاجتماعية العريقة، التي تطبع البيئة المغربية في مختلف الأقاليم
والجهات، في سبيل إبراز الهوية الثقافية والحضارية، بعيدا عن ملامح التشويش التي
تعرضت لها هذه البيئة، خلال التغيرات الطارئة التي عرفتها على يد الإدارة
الاستعمارية خلال القرن الماضي. ومع أن الميراث الذي سجلته أعمال هؤلاء
الفنانين، ضخم وهائل ويشكل في مجموعه ثروة حضارية/ تاريخية/ فكرية هامة، فإن
غالبيته لم تتجاوز حدود الزمان، لتضع أمامنا مشهدا شموليا عن القيم الفنية/
الجمالية لهذا التراث وخصائصه ومعطياته.
ولا بأس هنا من الإشارة، إلى أن التراث البيئي الحضاري/ الفني
المتواصل بالمغرب، وإذا ما أرادنا حصر خصائصه الفنية/ الجمالية، سنجدها في نهاية
المطاف، ترتكز على المظاهر الخارجية: التوحد/ التكثل/ التداخل/ وهو ما يعني من
وجهة أخرى، أن المبدعين الذين استهوتهم مظاهر هذا التراث في العالمين الحضري
والقروي بالمغرب، قد ضربوا صفحا عن خصائصه الداخلية، وعن الفنون العديدة التي يزخر
بها، وهو ما يجعلنا نؤكد مرة أخرى، على ضرورة تعميق البحث في أغوار تراثنا البيئي
المتعدد الألوان والأشكال والرموز بالعاملين الحضري والقروي بالمغرب العتيق.
-9-
وليس بعيدا عن التراث البيئي بأسواقه ووحداته تستوقفنا في هذا
المجال، النماذج الإبداعية المرتبطة بالفرس والفروسية، عند حسن الكلاوي/ محمد
التومي/ عبد اللطيف الزين/ العربي بلقاضي، حيث يظهر الجواد معبرا عن أصالته، ممثلا
للارتباط الأصيل بالتراث الوطني، إذ حاولت أعمال هؤلاء الفنانين وغيرهم كثير،
إبراز صفات الفروسية التي كانت وما تزال ترمز في البيئة المغربية، إلى الشهامة
والشجاعة والصبر والتنافس الشريف في طلب الخير والمجد، مستفيدة في ذلك من قراءتها
لديوان الشعر العربي/ الأمازيغي القديم والمعاصر، الذي يتبارى في وصف الفرس والفروسية
إلى حد الإيداع.
وقد جاء وصف العديد من الفنانين المغاربة للفرس والفروسية، انطلاقا
من شروط البيئة المغربية ومواصفاتها، ومن وهج شعورهم والتهاب أحاسيسهم بقيم
الفروسية ومكانتها في حياة المغرب الاجتماعية.ومن عمق البيئة المغربية نفسها،
تستوقفنا العديد من الأعمال الإبداعية التي سجلت إلى جانب الفرس والفروسية، حفلات
“التبوريدة” التي تنتمي إلى سلسلة التقاليد الشعبية المغربية، وهي حفلات تحتضن
اضافة إلى تعامل الجياد والفرسان مع طلقات “البارود”/ مع أهازيج ورقصات أحيدوس
التي تشكل باستمرار حدثا احتفاليا هاما لعب أدوره في إثراء مفاهيم الفنون الشعبية
وتطورها على المستوى المعرفي كما على المستوى التشكيلي، إذ تؤكد العديد من هذه
النماذج، التي تزخر بها المجموعات التشكيلية المغربية، إن الحركة/ الرموز/
الإيقاعات، كانت وما تزال هي الطاقة الكامنة التي حركت/ تحرك العديد من الفنانين،
والتي شكلت/ تشكل ذاكرتهم الجماعية، التي تحكي التاريخ بالجسد والرمز والحركة
والنغم.فمن خلال نماذج حسن الكلاوي، يمكننا أن نكتشف فعل الحكي الانطباعي الذي
يسيطر على رموز “التبوريدة” والذي يقدم خطابا بصريا مغايرا للمعتاد، يمارس طقوسا
موغلة في التراث، يتعانق فيها اللون والحركة والإيقاع والرموز مرة واحدة.
أما نماذج الفنان الشاب محمد التومي، فتتجه إلى معالجات تشكيلية
مغايرة، إذ تسعى إلى اخضاع مهارات الخيل إلى التدوين، لتنوب حركاتها المبدعة عن
الحكي، وتبوح بما في الرمز من سلطة سائدة بين الفارس وفارسه، دون أن تدعى لنفسها
خطابا معينا أو توجها مدرسيا معينا.وعلى أن الاختلاف واضح بين النماذج الفنية التي
اهتمت بالفرس والفروسية في التشكيل المغربي، على مستوى المعالجة والتنفيذ، كما على
مستوى الخطاب الجمالي، فإنها على مستوى آخر تتوحد مضمونيا في رؤاها
الجمالية، إذ تربط “التبوريدة” وحفلاتها بالمشاركة الجماعية، وبالتقاليد القبلية
وألوانها الاجتماعية والثقافية، وإن كانت في بعضها تخلو من الصنعة الاستيتيكية
التي تعيد تراث “التبوريدة” إلى مجاله الثقافي والحضاري.
-10-
هكذا، وبعد هذه المراجعة السريعة والمركزة، للعلاقة المترابطة بين
الرموز التراثية والإبداع التشكيلي المغربي الحديث، يمكننا أن نسجل الملاحظات
التالية: -
1- على مستوى التراث
المعماري، رصدت النماذج التي انخرطت في هذا السياق وهي متفاوتة القيمة، متباينة
الأساليب، الإرث المعماري المغربي في تفاصيله، عبر الشهادات المتبقية منه على
الطبيعة في المدن والقرى العتيقة، بعضها تبنى الخطوط الدقيقة والمتحركة لهذه
التفاصيل/ الوحدات، وركز البعض الآخر منها على حركة الفرشاة التي تحولت إلى خطوط
متحركة على السطح المنسوج في العملية الإبداعية.
2- على مستوى التراث
البيئي، التجأ الفنان المغربي إلى عدة أساليب لتجسيد المرئي في رموز هذا التراث،
ومن أجل قراءة هذا المرئي، قراءة جمالية/ معرفية/ تشكيلية حاول العديد من الفنانين
في هذا المنحى إبراز العنصر الإنساني على حساب تفاصيل الفضاءات البيئية، في حين قدم
البعض منهم (عفيف بناني/ عبد اللطيف الزين/ محمد بن علال) الخصائص المستمدة من
القدرات التقنية/ الحرفية، حيث تمت إعادة تركيب الأشياء على نحو تسجيلي، يفسح
المجال أمام التفاصيل الواقعية للمشهد القروي… أو يحول هذا المشهد إلى عالم أسطوري
ينسج نفسه خارج الواقع. وعلى أن هذه النماذج تختلف فيما بينها
من حيث أساليبها/ رؤيتها ووعيها بالتراث البيئي، فإنها تتواصل بوعي أو بدونه مع
تراث الماضي، عبر قدرتها على تجسيد هذا التراث، ورفع تفاصيله إلى مستوى القراءة
البصرية/ الجمالية .
3- وعلى مستوى الأعمال التشكيلية التي رصدت
فنون الفرس والفروسية وهي ترتبط بشدة بالبيئة المغربية القروية، فإن القراءة التي
قدمها العديد من الفنانين المغاربة لهذا التراث، ستظل ملفته للنظر، ليس فقط لأن
أسلوبها الفني رفع البعض منها إلى درجة هامة من الجمالية والإبداعية، ولكن لأن
العديد منها أكد قدرة الفنان المغربي على إعادة خلق عالم الفروسية بمناخاته
ومواصفاته وألوانه، وأحيانا بتفاصيله الدقيقة، وهو ما جعل العلاقة التناغمية بين
الإنسان والفرس، في العديد من هذه الأعمال، شاعرية إلى حد الإبهار.
-11-
بذلك تكون الأسماء
الإبداعية التي اشتغلت على الأصناف التراثية، التي تمت الإشارة إليها، قد كشفت على
اختلاف رؤاها للتراث وقضاياه، عن دأب أصحابها على التفاصيل وعلى الحركة التي تحول
العلاقات التشكيلية المتجانسة في العمل الفني، إلى عالم قوامه الشاعرية والجمالية
جميعا، فالقاسم المشترك بين هذه النماذج جميعها، احساسها الجمالي/ الشاعري
بالتراث، الذي يقرب بعضها إلى التجريدية ويربط بعضها الآخر بالواقعية والانطباعية،
إلا أنها في كلياتها أعطت هوية مميزة لنفسها في المجال التراثي، جدرت رؤيتها في
طموحاتها التشكيلية المحلية، وهي بذلك استطاعت إثارة الكثير من الأسئلة والتساؤلات
حول صيغة تعاملها مع التراث، كهوية إبداعية.ولابد من الإشارة هنا، أن قضية التراث
عرفت في الآونة الأخيرة، تحركا ملحوظا، لا على المستوى التشكيلي وحده، ولكن على
مستوى الفنون والآداب والفكر عامة، إذ حظي هذا الموضوع، بدراسات وقراءات متباينة،
تنصب في أغلبها على أبعاد القضية التراثية من وجوهها الفكرية والفنية، في محاولة
لتأسيس رؤية جديدة وحديثة للثقافة العربية، والخروج بهذه الثقافة من منعطفها
الحالي، الذي أصبح محصلة لتراكمات حضارية سلبية مزمنة.
ومن خلال التساؤلات الموضوعية التي طرحتها/ تطرحها هذه القراءات
حول علاقة التراث الماضي بالتراث الحاصر، وحول الجدل التاريخي القائم بينهما، يبدو
أن الفنان المغربي الذي انخرط في هذه العلاقة، وقدم من خلالها. العديد من
الإيجابات عن طريق منجزاته الإبداعية، قد امتد على رقعة محدودة: الوحدات الهندسية/
التراث البيئي بكل تفرعاته، ليقترب من العين الاجتماعية، ويأخذ مدلوله الفكري من
خلال تواصله مع الأشكال التعبيرية الأخرى: (القصيدة/ الرواية/ المسرحية/ اللحن
الموسيقى/ الأغنية) التي اعتنت بهوية الانسان المغربي من خلال جذوره.
وعلى أن رقعة العمل التراثي عند الفنان المغربي لم تتسع بعد إلى
أفاق التراث العربي الرحب، فإن الشخصية الثقافية لمنجزاته التي استعرضنا نماذج
منها لأجيال الفنانين المتعاقبين، تشترك في ملامحها، وفي تكوينها الفني مع الشخصية
الثقافية العربية، سواء في اصرارها على انتمائها، إلى جذورها/ هويتها أو في تنوع
أساليبها المدرسية… كما في خطابها الذي يبوح بكل أسراره وطموحاته.ولأن الشخصية
الثقافية للعمل التشكيلي/ التراثي، ستظل زمنيا/ تاريخيا، مرتبطة بالحداثة
والتحديث، كحصيلة طبيعية للتوترات المتحكمة في قضية التراث في الوطن العربي، فإن
عملية عزل هذه الشخصية عن اللوحة، ستكون بمثابة عملية قيصرية يقوم بها بعض
الفنانين تحت تأثير البحث… أو التحديث، دون وعي بانعكاساتها السلبية على الثقافة
والتشكيل معا.
إن الأمر هنا يتعلق خاصة بالأعمال التي تجمدت في التسجيلية لنقل
معالم ورموز تراثية متجذرة في الثقافة التشكيلية دون أن تدخل في حوار مع قيمها
ورموزها، ودون أن تلحقها بالجدل الفكري الدائر حول القضية التراثية الشاملة… فهذه
الأعمال رغم قيمة بعضها الأكاديمية، فإنها تكرس الدعوة الرجعية لخلق ثقافة
فلكلورية سكونية تفتح علينا باب التقليد الذي لا يمكن أن يؤدي سوى لثقافة سكونية غارقة
في اشعاع الماضي، ولا يهمها من الحاضر اشعاعه المستقبلي… ولا اشعاعه الآني.ويلاحظ
هنا، أن الأعمال التي سجنت نفسها في هذا الاتجاه، على أنها تقر ضمنيا أن التراث
الماضي يكون أحد أبعاد الأصالة في ثقافتنا المغربية، ويمثل الصورة التي كنا عليها
بالأمس، فإنها لم تتجاوز ذلك لاستقراء هذا الماضي الذي كان قنطرة عبور عريضة إلى
الحاضر… ومنه إلى المستقبل… فالاهتمام كان بالناحية العاطفية لا بالعوامل التي
تربطنا بهذه الجذور/ الوحدات الهندسية المعمارية/ الأسواق/ الفروسية… إلخ، التي
تمثل الأرض والإنسية القومية والإنسان في ثقافته وهويته، وأفكاره وتقاليده القديمة
والجديدة، على اعتباره صاحب رسالة مقدسة… وحضارة عريقة.