نصف وجهكِ غمامة سمحاء ترقبني من بعيد
وتحجب عني وجه القمر، والنصف الآخر شكلته قطرات المطر الباردة على زجاج نافذتي.
عيناك تغرقان في دموع حرّى وعلى
عنقك عقد ردائي الأخضر، مسحت دموعكِبأنامل مرتعشة،
وغرست فوق جبينك غصنا يانعا وعلى رأسك أضأت منارتي.
في تفاصيل وجهك المرسوم على الغيمة
والنافذة؛ دروب تقود إلى الماضي، وعلى خدك كُتبت قصة لا تنسى، وخيال رقصكِالساحر المثير
يحيل خضرة أيامي أغصانا يابسة، يأخذني إلى ظل فتاة تعطر شعرها بالحناء تحت منديل
حريري أحمر، يداعب النسيم خصلاته فتعرج رائحته على حاسة الشم، وتخترق السموات
السبع لتضيع في متاهة الكون.
في كل ليل شتائي في لندن يغمرني حنين إلى
الطفولة الطاهرة، ونجمة الشمال اللامعة في فضاء من الألوان زينته الكواكب والنجوم،
تسألني عن سر هذا الحنين ولواعجه المتقدة في الفؤاد، تضم يدي الباردتين، تدفئني ..فاطمئن وأسرد لها حكايا الماضي وخباياه، متجاوزة ظلمة الليل
والأشواك الدامية، أتبع أثار خطاكِ ولحن خلخالكِ، واسمع نبرة صوتك تحكي أحلامك
وأمالك، فيبكي قلبي وأحيي ذكراكِ. أرحل إلى عمر مضى تمنيت فيه أن أكون أنتِ
في رقة صوتك وأنوثتك الطاغية، وعينيك العسليتين الأنيقتين المتحديتين برودة الشتاء
في لندن.هاتيك العينان لا أنساهما، لا أنساهما ما
حييت.
كنت أغبطكِ على ما تملكينه ولا أملكه،
وحاولت مرارا تقليدك فأنت رمز الأنثى وقيثارة النساء وعقدة التاء المربوطة، قلدتُ
ضحكتك الساحرة كموسيقى متناغمة بلحنها العذب الحالم، وطريقة تناولك الطعام والشراب..قطع خبز صغيرة وماء سلسبيل يدنو من خاتم أينعت فيه حديقة ورد،
وأسلوب حديثك الساحر كقافية القصائد. حاولت تقليده باجتهاد ولم
أنجح.
أسميتني الخضراء لثوب أخضر فضلت ارتداءه على
غيره. ارتضيت رعي الأغنام التي لا أحبهالأجل
رفقتك، فأنت صديقتي الوحيدة والأنثى التي ظننت أنني سأكونها يوما يا نهاد. قضينا معا أياما جميلة. أنت
شابة يفيض وجهها أنوثة، ترافقها طفلة متسخة الثياب مشربة الخدين بالحمرة. كم اشتاقك واشتاق ليالينا الماضية، التي تلاشت كما يتلاشى
النور خلف الشفق. انتهت حياة الطفولة، ودخلتُ معترك الحياة
وماعدت راعية أغنام بل مديرة بنك ناجحة..من كان يصدق ما صرت إليه..؟
كنت طفلة صغيرة تلهو على سفوح الجبال
والهضاب، وفي المراعي بجانب الغدران وبين الأشجار، أرى المستقبل في بيت صغير مع
تسعة أطفال؛ عاشرهم يدغدغ رحمي بحركات يديه وقدميه، وكل أحلامي تلخصت في إتقان
القراءة والكتابة حتى أتمكن من مطالعة صحيفة بلا عسر أوصعوبة. أفصحت لك عن أمنيتي فضحكت وقلت لي ساخرة: يكفيك استخدام أوراق الصحيفة في لف الخبز الساخن، فطفولتك تنتهي
بعد عامين. أي حينما أبلغُ الرابعة عشر من عمري،
لأصبح أما صغيرة ضعيفة وربة بيت مسؤولة، إلا إذا تبسم وأسعفني القدر وأحبني الله.
أما أنت فلم تهتمي بالتعليم والدراسة، كنت
تسألينني كيف يمكن كتابة مفردات بسيطة مثل عودة..محبة..ورحيل؟ تصغين إلي وتصححين أخطاءك وأحيانا لا تبالين فنخوض مسابقة
إملائية،فقد تفوقت عليك في القراءة والكتابة، وتميزت بخط أجمل طلبت إلي بسببه أن
أكتب لك رسالة حب تشكلت من كلمات غاية في البراءة والعذوبة.
رفضت في بداية الأمر اطلاعي على اسم صاحب
الرسالة، غضبت منك وفي أعماقي شعرت بالغيرة ممن يشاطرني قلبك، فرفضت مساعدتك في
كتابة الرسالة وتمسكت بإصراريحتى بحت لي بالسر الدفين.
بدأت القصة مع شادي بسهام نظراته تذيب الحلوة العذراء،وأفصحتِ عن القبول باحمرار
الوجنتين وبسمة خجلى على الشفتين، ثم بدأتما تبادل الرسائل، حتى توقف عن مراسلتك
منذ عام.. لكن قلبك الرقيق لم يتوقف عن الخفقان
والحنين والضرب على وترالأشواق، وبقيت تكتبين له الرسائل وتدسينها بين قطع الحلوى،
الملفوفة بورق الصحف وسعف النخيل، لتصله بنكهة السكر بعيدا من العيون.
كنت تتحدثين عنه بلهفة المحبين، وتصفين الحياة
التي تنتظركما معا تحت ظلال الرحمة، وبين كؤوس الغرام المترعة وضوء يشع من نور
عينيك، مع بحة محبوبة لم أعهدها في صوتك من قبل، مددتِ يديك كجناحي فراشة من الندى
وأوراق الورد، وخيوط أشعة النهار ترفرف نشوانة بين أفنان الأغصان، وبتلات زهر في
بستان يضم أزهى وأحلى الألوان، وترتوي من غدير سعادة تنساب في العروق وتسري إلى الوجدان.
خشيتِ شر الحسد فأوصيتني إهداءك البخور،
وعقدا خطت عليه سورة من الفرقان، فقلتُ بجدية واقتناع: أنت
أجمل فتاة في القرية، وأكثر من تشعل قلوب الفتيات، ومع ذلك "فالحسد سيصيبه هو لا أنت " ثم قلتُبكمد: "وكيف صبرت عاما دون أي أخبار
أورسائل "؟ حينما عزفت ضحكتك الرنانة
وقلتِ بغرور : إن آخر رسائله باح فيها عن رغبته الارتباط
بك، عند عودته من المدينة بعد عام. فاضطربتْ خواطري وكاد قلبي يتوقف
عن الخفقان، وحككتُجبيني لأتأكد من بقائي على قيد الحياة.
وفي يوم رأيتُ فيه أمي تشرف على ذبح ماشية
ظننتها وليمة عرسي، ورأيتُ نفسي عروسا ساذجة تُقاد إلى قبرٍ أعدَّ لها- يبدو كما الدار . تذكرتُ كلامكِ وصدقته فما كان للسانكِ النطق كذبا، وهربت مذعورة
اختبئ في كهف ثلاث ليال، حيث كانت الريح الباردة فيها زادي وغطائي، لم تذق عيناي
فيها نوما وراودتني الكوابيس المزعجة، وخيال ثلاثة رجال كما تخيلت حظي البائس
سابقا، الأول أصلع والثاني تتوسط رأسه دائرة فارغة، والثالث ذو بطن كبير، وجميعهم
يبتسم لي بأسنان متسخة متآكلة ويتجهون صوبي لافتراسي.
عثرتِ وأسرتي عليّ بعد أن نالت الحمى مني،
واغرورقت عيناكِ بالدموع من أجلي..عانقتني وطمئنتني ألاَّ وجود لأي عرس ولا
زوج في انتظاري. كان ما قلته بسبب ما حدث معك قبل خمسة
أعوام، حينما كنتِ في الثالثة عشر من العمر وقد قررت أسرتك زواجك من رجل أكبر عمرا
من أبيك، لكن الله أحبك فأنجاكِ وهنا يكمن السر كما قلت لي. كنت تتحدثين وجسدي الضعيف يرتجف بين ذراعيك وعقلي لا يعي ما
تقولين. وبعد أيام من شفائي من الحمى وما ألمّ بي
من تعب؛ سألتك عن قصة نجاتك من هذا الزيجة، أجبتِ ومخاوف تلك الليلة تقيم في جانب
من روحك وخيالك، ويداك ترتعشان كارتعاد جسدي الهزيل بين ذراعيك:
"وكان يوم الزفاف المرتقب، ولم يبق على انتقالي إلى منزله سوى
حضوره لاصطحابي إليه. لكن موكبه تأخر ومع كل دقيقة تمر ، كان
قلبي ينبضبرجاء وأمل موعود لا أعرف مصدره، وقد تعالى من فمي دعاء خاشع، حملته
ملائكة الرحمة على أجنحتها الشفافة وطارت به نحو السماء، غضبت السماء وأرسلت
جنودها من برق ورعد وصواعق، فاضتْ دموعها وأسرفتْ في الفيضان، فتحول الفرح الآثم
إلى أحزان، حينما أرداه قتيلا غضب السماء.
ضحكتُ في سري وأحسست بالشماتة من فشلهم في
وأد طفولتي وشل وجداني، ورقصتُ حتى الجنون تحت دموع السماء فيما بكى من كان
يعرف قصتي.
أدركني الله واستجاب لدعائي بفيض من المطر..عاد
الدعاء بالمطر، عاد الدعاء بالمطر".
كررت آخر كلامك كثيرا
وصرختِ به وقد توقف ارتعاد جسدك وبدأ يتمايل في فرح، سألتك: "وهل تستطيع الفراشة حمل زهرة يا نهاد؟ وفرخ الطير هل يحمل جذع
شجرة؟ وهل تتحول قطرة الماء إلى عقد مناللؤلؤ؟"
وحينما ملتِ نحو أذني وقلتِ لي: "أحبي الله ليحبك، ولن تكوني مثلي أو مثل غيري من فتيات القرية
البائسات". فرحت أصلي إلى الله كل مساء
بصوت خافت "إني أحبك يا الله فهلا
أحببتني؟ هل أغرقت الأرض مطرا لأجلي كي لا أكون مثل نهاد مرة أخرى؟" ومنذ أن توسلت إلى الله لم تعد تمطر السماء، فرفعت يدي للسماء
أكثر : "يا الله لم تُغضب نهاد يوما
فلم لا تستجيب لدعائي؟
نقمتُ على شادي وغضبتِ من نقمتي عليه ثم
عدتِ تطمئنين قلبي بدوام صداقتنا إلى الأبد، وتعاهدنا عهد الأصدقاء والوفاء، وعهدنا
ألا يتخلى قلب عن قلب ولا تتوقف زيارتنا لبعضنا البعض وأن نرعي الأغنام سويا وألا
نفترق على مر الزمان..ثم عقدتِ منديلك الأحمر على شجرة عالية في
سفح جبل شامخ، وتخليتُ عن ثوبي الأخضر لأعقده حول الشجرة رمزا لعهد الوفاء. وكان كلما اقترب موعد عودته غلبني الحزن وتأملت شجرة عهدنا،
وأوراقها المتمايلة مع الرياح تشاكس الشمس وتخجل من القمر، وتحفظ منديلك الأحمر
وثوبي الأخضر، ولمأبح بحزني جهرا لئلا أفسد فرحة في وجهك النضر وقلبك العاشق وتساءلت
في نفسي أترى يصان عهدنا ولا يأخذك شادي وأطفالك مني؟
وحين شارفت السنة الأخيرة من دراسته على
الانتهاء، واقتربت عودته من المدينة ليأخذك بعيدا عني ويحظى بكل قلبك؛ أكثرت من
الدعاء ألا يعود: "يا الله إن أحببتني أكثر فلا
تيسر له طريق العودة، قالت نهاد إنك تستجيب لمن تحب وأنا أحبك فاستجب لدعوتي يارب،
سأرعى الأغنام بلا تذمر وأجلب لجارتنا العجوز الثرثارة الماء كل يوم بلا اعتراض...لن أترك فرضا من الصلاة ولن أعبثبالنمل المسكين أو أعبس في وجه
إنسان."
وحينما شاع نبأ قدوم شادي بعد يومين، خاب
أملي لسقوطه في الدراسة، وعرفت آنذاك من والدتي أننا سنرحل يوم وصول شادي إلى لندن،
بعد ترتيب خالي المقيم فيها أمر سفرنا وهجرتنا، ليعمل والدي هناك بدخل يكفينا
ويزيد. لكن ماذا عن نهاد؟ وعهدنا مع الشجرة؟ لا..لن أقلق فشادي قادم ليأخذها فلأخرس ولا أفصح عن السفر، سأتخذ من
الصمت حجابا لي فشادي سينسيك حتى الحزن على رحيلي.
حلَّ يوم السفر ووصول شادي. كان الوقت ظهرا والشمس تعاتبني على كتمان السفرعنك، اتجهت
برفقة والديّ نحو السيارة التي ستقلنا إلى المدينة ومنها إلى المطار. سمعنا صوت زغاريد ورصاص، تعجبت أمي ولم أتعجب، قلت لها هذا يوم
خطبة نهاد، اندهشت وتجاهلت حديثي كأنما لم تسمع ما أقول. أقسمت
أنها أنت ولم تبالِ وقادتني إلىالسيارة، تجرني بقوة كمدانة محكومة تقاد إلى منفاها. مررنا بالشجرة حيث عقدنا منديلك والثوبالأخضر..حب دائم بيننا وزهر رمان من قلبينا يتدلى، وبساط من مرج أخضر
يحملنا إلى بيوت النجوم، وقصور الخالدين في السماء وجنة تقيم في الأرواح.
صرختُ وركلت المقعد أمامي، أطالب توقف
السيارة أمام بيت نهاد، ولم أتوقف عن الصراخ حتى استجيب لطلبي، ركضتُ نحو دارك
ورأيتكِ خارج الدار تفترشين الأرض.كنتِ وحيدة كحمامةكُسر جناحاها
وتساقط ريشها وهي تنتفض مذبوحة الجسموالروح. لم
أسمع صوت نار ولا أهازيج نساء وأعراس. كان الصوت بعيدا جدا عن
دارك، قلتِ والدموع تنحدر على وجنتيك. أتى عريس ومعه العروس يا
خضراء.
بقيت ساكتة اتأملك..أتعلم من وجهك كيف يتحول الحسن الهادئ حزنا جذابا مثيرا، ثم قلت
بعفوية طفلة: "أنت أجمل يانهاد من أي عروس
وأطهر". دنوت أعانقك فجذبتني أمي تطلب
ضرورة إسراعي كيلا تفوتنا الطائرة. صرختِ بأنفك الرقيق المحمر
وخدك المندى بدمعك الفاتن وقلبك الحزين المطل من خلف سجن شاركت ببنائه في صدرك بلا
عمد مني: إلى أين؟ قالت أمي ببرود: إلى لندن يانهاد.
رافقتُ أمي مرغمة ورقبتي تكاد تنفصل عن
رأسي وأنا ألويها لأنظر إليك، انبعث من أعماق روحكِ صراخ رهيب: وثوبكِ الأخضر؟أخرجت رأسي من نافذة السيارة وقلتُ: خنتُ العهد يا نهاد، الذنب ذنبي، أحبني
الله أكثر منك. ثمبكيتُ طويلا ورفعت رأسي أدعو: يا الله أرجوك ألا تحبني مجددا.