عربيةٌ لُغتي.. ألوذُ بحَرفِها
كالطفلِ بالأمِّ الرءومِ تَعَلُّقا
أطْلقتُها بين الضلوعِ فأينَعتْ
بعثرتُها في الجَدبِ لانَ وأوْرَقا
وحملتُ رايةَ عِزِّها وجِهادِها
حتى تماهَى نَجمُها وتألَّقا
رمزُ الجمالِ على الدروبِ تأنُّقَّا
أوحَى بها الرحمنُ فامتثلتْ لها
كلُّ اللغاتِ كمَنْ على نورٍ سَجَدْ
للضَّادِ في عُشَّاقِها سحرُ الهوى،
إشعالُ نبضٍ، واضطرامٌ مستَّبِدْ
وإضاءةُ الظَّلماءِ، كشْفُ حقيقةٍ،
تجميلُ نفسٍ، وابتهالٌ يرتعدْ
للضَّادِ في عُشَّاقها فِعْلُ المياهِ
بغفوةٍ لما تُرَشُّ على جَسَدْ
* * *
لغتي.. أيا نبضَ العروبةِ .. حلِّقِي،
يا تاجَ أوطاني، ويا كنزَ الثرِيِّ
مُدّيِ جَناحيكِ، اخطُري، تيهِي،
تغَنَّىْ، أذِّني في الناسِ توًّا... كبِّرِى
نشَبوا أظافرَهم … فكنتِ قوِّيةً
لمْ تنزفي أبدًا، ولمْ تتعثري ِ
شابتْ لغاتُ الناسِ يا أمَّ اللغَى
وفتيَّةً ما زلتِ .. لم تتأثري
أبناءَ أمّتي انهضوا، لا تهربوا
من حضنِها، ألها سواكُم يَنْصِفُ؟!
فُصْحَي على مرِّ الزمان ِ فإنّما
كلُُّ الشفاهِ بِنُطقِها تتشرَّفُ
دومًا كنورِ الِله تَسكُبُ سِرَّها
في قلبِ مَنْ رحلوا بها أو طَوَّفوا
لتكنْ كوجهِ الشَّمسِ فَهْيَ حقيقةٌ
حتى وإنْ ضَجُّوا بها وتأفَّفوا
كان لابد من أن نبدأ بتلك القصيدة الجميلة للشاعرة
المصرية "شريفة السيد"، حتى تكون مُفتتحًا لمناقشة كتاب يناقش الخطايا التي
نرتكبُها في حقّ لغتنا الجميلة، كل يوم بقلب بارد، ودون أن يطرف لنا جفن، وأيضًا لتكون
تلك الأبياتُ إكليلَ غار فوق هامة من يحترم لغتَه، ووخزة شوكٍ في قلب من يُهينها من
أبنائها.
أما الكتابُ فعنوانه "تصحيحُ ألفِ خطأ وخطيئة
لدى مستعملي العربية"، تأليف د. "حسن مغازي"، أستاذ النحو والصرف وموسيقى
الشعر بكلية الآداب. كتابٌ مهمٌٌٌّ، يأتي في هذا الوقت كجرس إنذار غاضب، يُقرع في وادي
أرضنا العربية الشاسعة، التي قطّعَ أبناؤها، مع سبق الإصرار والترصّد، وشائجَ وخيوطًا
كانت تربطهم برَحم أمِّهم، اللغة العربية، فصاروا من دونها غرباءَ، وصارت من دونهم
مهجورةً منسية. الكتاب صادرٌ عن دار "غراب" للنشر والتوزيع، وهو الجزء الأول
الذي يرصد مائتي خطأ شائع، تتبعه أجزاءٌ قادمة تُكمل الألفَ سهمٍ، مما نضربها في خصر
أمّنا اللغة كلَّ نهارٍ، من حيث لا ندري.
حضرتُ بالأمس ندوة ثرية لمناقشة هذا الكتاب في
"دار الكتب والوثائق المصرية"، نظّمتها الشاعرةُ "شريفة السيد"،
مسؤولة النشاط الثقافي بدار الكتب، خلال سلسلة الصالونات الشهرية: "صالون الشباب
ولقاء الأجيال"، التي تُعدّها الشاعرةُ المثقفة من أجل أن يلتقي الشبابُ المصري
والعربي بأجيال الروّاد، فيتعلّموا على أياديهم، وينهلوا كنوزًا معرفية وأدبية ولُغوية،
مما لن يجدوه في كتب مناهج التعليم المتعثّرة. أدار اللقاء الشاعر خالد سعد، وناقش
الكتاب كلٌّ من د. مصطفى حسين، أستاذ التاريخ بدار العلوم، ود. علي عبد الكريم، مستشار
وزارة التربية والتعليم بمصر.
مئاتُ العثراث اللغوية، نحوًا وصرفًا وإملاءً ونُطقًا،
في نشرات الأخبار والإعلانات والكتب والمقالات، بل الكتب الدراسية وفي أطروحات الرسائل
العلمية الخاصة بالشأن اللغوي والأدبي، هي التي دفعت د. مغازي للاضطلاع بتأليف تلك
السلسة من الكتب التي أسماها "تصحيح العربية". قال إن أبناءنا الطلاب يتعلّمون
اللغة من كتبٍ حاشدة بالأخطاء اللغوية، وضعها تربويون غير قادرين على إقامة جملة عربية
سلمية دون عوج. فكيف ينشأ أولئك الطلاب؟ ومَن المسؤول عن جريمة فراغهم اللغوي الذي
سينشأون عليه مع الأيام؟! رصد الكتابُ مائتي خطأ شائع مما نلوك كل يوم، فنرتكبُ كوارثَ
تكون أحجارًا عثرة في سبل التواصل مع الآخر. فالحرفُ الخطأ قد يقتل؛ إن أصاب مسمعًا
سليمًا، كما نعرف. منها عدم التفريق بين العام والسنة، في قولنا الخاطئ الدارج: “كل
سنة وأنت طيب"، ومنها حين نضمُّ الواو إلى أداة العطف "بل"، فنجاور
بين أداتي عطف، كقولنا الخاطئ: “خطرتِ الصبيةُ جميلةً، بل ومشرقة"، وصحيحها:
“بل مشرقة". ومنها الخطأ المُريع الشائع: “اللهم صلّي على محمد"، وصحيحها:
“اللهم صلّ على محمد"، كون الفعل مجزومًا للأمر. ومنها خطأ أن يُقال: "لعدم
وجود كذا"، فكيف يلتقي الوجود والعدم في صوغ؟! والصحيح بداهةً أن نقول: “لانعدام
كذا". ومنها خطأ أن نجمع "مدير" بصيغة "مدراء"، وصوابها
"مديرون". ومنها الخلط بين "من" و"منذ" حال الكلام عن
مرور الزمن. ومنها جريمة استخدام "الشمال" بدلا من "اليسار" لتحديد
الاتجاه. وفاحشة أن نقول: "أنا متواجد في مكتبي"، لأن التواجد من الوجد والشعور،
وصحيحها: "أنا في مكتبي". والخلط الشائعُ بين "يحتار- يحار"،
"يرتاح- يستريح"، "حسَب- حسْب"، "العُزَّل- العُزْل"،
"بما- بمَ"، عمّا- عمَّ".... وغيرها العشرات من الأخطاء والخطايا والهنات
اللغوية التي نُجرمُ بها في حقّ أمّنا العربية الجميلة، دون حياء.
وهنا أذكر بمرارة أحد القضاة حكم على أديبة بالسجن
ثلاث سنوات، لأنه أخطأ في قراءة كلمة كتبتها في تدوينة. كتبت المتهمةُ في تغريدة لها:
“... قد مرَّ على الرجل الصالح و(آله)”، وواضح أن المقصود: "أهلُ الرجل الصالح
وذووه"، لكن القاضي "الجليل" كتب في حيثيات الحكم عليها: “(آله) المقصود
بها (إلهه)، وهذا تطاول على رب العالمين"!!!!!!!
وهنا يتجلّى الفارق بين "الخطأ" في اللغة،
وبين "الخطيئة". الخطأ يكون حين يخطئ أحدُ الناس في اللغة، أما الخطيئة فتكون
حين يخطئ فيها القضاةُ أو الأدباء أو المعلّمون. اللغة العربية في خطرٍ داهم. فمن يقرعُ
الأجراس لنجدتها؟