وفي الليلة العاشرة بعد الألف قال الملك شهريار:
- بلغَني يا شهرزاد أن الملك ليرْ - مَلك
بلاد الإنجليز- لما شاخ وضاق ذرعاً بالمُلك ولم
يعد يلمس في نفسه الرغبة في تسيير شؤون
مملكته الشاسعة ، دعا بناته الثلاث -الكبرى غونريل والوسطى ريغانْ والصغرى كورْديلْيا
- إلى قاعة العرش، بعد أن عقدَ العزمَ على تقسيم المملكة بينهنّ. فلما مثلْن أمامه،
أمرَ بإحضار خريطة كبرى ثم خاطبَهُنَّ قائلا :
- فلنرَ الآن يا بناتي من منكنّ تحب أباها
أكثر من غيرها ، حتى يتحدد نصيب كلُّ واحدة منكنّ من أراضي مملكتنا الشاسعة ، على قَدْر
الحب الذي تُكنّه لأبيها الملك المُسنّ.
كان على الابنة الكبرى غونريل أن تتكلم هي الأولى
فقالت :
- يا سيدي، أحبك حبّاً لا يستطيع الكلامُ
أن يُحيط به ولا أنْ يُعبر عنه، فأنتَ أغلى لديّ من عينيّ ومن حريتي ... واعلم أن حبي
لك لا يقلّ عن حبي للحياة ولا عن حبي للصحة والجمال والشرف ... أحبك غايةَ الحب الذي
تستطيع ابنةٌ أن تشعر به نحو أبيها ويستطيع أبٌ أن يثيرَه في ابنته .. أحبك أيها الملك
حبا يقطع الأنفاس ويَجعل الكلامَ عديمَ الجدوى ... أحبك فوق ما يمكن التعبير عنه ب(
أكثر منْ) أو ( بقَدر ما...)"
فلما سمع الملكُ لِير ذلك الكلامَ تناول خريطةَ
مملكته وقال لابنته الكبرى:
- انظري إلى الأراضي الممتدة من هذا الخط
إلى ذاك ،لقد صارت ملْكاً لك ، بغاباتها الظليلة ومروجها الفسيحة وسهولها المترامية
وأنهارها المليئة بالأسماك.
ثم إنه التفت إلى الابنة الثانية وخاطبها بقوله
: - فلنستمع الآن لما ستقوله ابنتنا الوسطى.
فلما سمعتْ رِيغانْ كلام أبيها أجابته بقولها:
- اعلم أني من المعدن نفسه أيها الملك. وقد
عبّرتْ أختي الكبرى عن بعض ما أكنُّه لك، لكنها عجزت عن بلوغ الشأو المطلوب. وإني أعلن
لك أنني أكره كلَّ مَسرّة في هذه الحياة، إذا هي لم تكن متأتية من حبي لك.
فتناول الملك الخريطةَ، وأشار إلى الثلث الثاني
من مملكته وقال لها :
- حسنا إذن يا ريغانْ ، فلتنعمي ما شاء لك
الله أن تنعمي بهذا الثلث الشاسع من مملكتنا السعيدة .
إثر ذلك التفت الملك ليرْ إلى صغرى بناته وقال لها:
- وها قد جاء دور ابنتنا الصغرى، التي يتنافس
على قلبها دوقُ بورغونيا وملكُ فرنسا ، فلنرَ كيف تصف حبَّها لأبيها..هيا، تكلمي إذنْ
يا ابنتي ،فأنا أصغي إليك.
قالت كُورْدِيلْيا :
- أما أنا - أيها الملك- فلنْ أقول شيئا !
فاستغرب الأب عند سماع ذلك منها وقال:
- إذا أنت لم تقولي شيئا، فإنك لن تحصلي على
شيء. هيا، تكلمي إذن. لا تترددي في وصْف ما تَحْملينه لي من حُبّ.
قالت كورديليا :
-أيها الملك، أنا لا أستطيع أن أضع قلبي
على شفتَيّ، كما يُقال. كلُّ ما يمكنني قوله هو أنني أحبك كما ينبغي أن تحب ابنة أباها.
فاضطربَ الملك عندئذ وخاطبها قائلا:
- كورديليا، حاولي التخفيف من وقع عباراتك
القاسية هذه، فإنها لن تترك لك حظا في الحصول على نصيبك من المملكة.
أجابته كورديليا :
- لقد أنجبْتَني وربيتَني وأحبَبْتني وأنا
أبادلك حبا بحب وأطيع أوامرك وأرفع ذكْرك عاليا، حيثما حللتُ ، ولكنْ دَعني أسألك أيها
الملك : إذا كانت أختاي تَزْعمان أنهما لا تحبّان سواك ، فلماذا تزوجتا وصارت كل منهما
تعيش مع رجل آخر ؟ أما أنا فلستُ أكتمك أنني في اليوم الذي سأتزوج فيه سأهبُ نصف قلبي
لذلك الأمير الذي سأضعُ يدي في يده وسأغدق عليه هو أيضا من حبي ومن عنايتي واهتمامي.ولو
كنتُ عازمة على ألّا أحبَّ سواك، لما فكرتُ في الزواج في مُقبل الأيام.
فلما سمع الملكُ ذلك الكلام ، سألها قائلا :
- هل هذا هو شعورك العميق تُجاهي ؟
قالت :
- هو ذاك ،أيها الملك.
فلما تيقن الأب من أنها تُعبر بالفعل عمّا يعتمل
في دواخلها، سألها مستغرباً:
- كيف تكونين صغيرة السن إلى هذا الحد وقليلة
المحبة إلى هذا الحد ؟
ثم إنه أعلنَ عن حرمانها من نصيبها في المملكة وتبرأ
منها ومن الأواصر التي كانت تربطها به. ولمّا حاولَ الكونت ( كنْتْ) أن يثنيه عن قراره،
قال له قولتَه المشهورة :
-إني أعيذك يا ( كنْتْ) أن تحُول بين التنين
وغَضْبَته !"
فلما تمادى ( كنتْ) ، وحاولَ بشتى الطرق أن يجعل
صاحب التاج يتراجع عن قراره ، قال له الملك المسن :
- القوسُ توَتَّرَتْ يا كنْتْ والسهم موشك
على الانطلاق ،فحذار ْ أنْ يُصيبك في مقتل !"
فلما سمع الكونت كلامَ الملك لير، غضبَ أشد الغضب
ولم يعد يبالي بما يفعل. وهكذا خاطب الملك بقوله:
- فلينطلق السهم ، ولْيُصبْني في الصميم
! إذا كان الملك ليرْ مجنونا، فإن من حق (كنْتْ) أن يَكون عديمَ اللياقة ! إني أناشدك
أيها الملك أن تراعي حرمة صولجانك وأنْ تُخَفّفَ من غلوائك. واعلمْ أن ابنتك الصغرى
ليست أقل حبا لك من أختيْها..فالذي يعبر لك عن محبته بكلمات باردة ومحايدة لايكون قلبه
قاسيا بالضرورة.
بَيد أن الملك لم ْ يتراجع عن قراره بحرمان صغرى
بناته من نصيبها في المملكة ، وإنما توجه إلى الكونت بهذه العبارات القاسية:
- اسمع أيها الخائن، يا من يريد أن يتصدى
لقرارات عاهله. إني أمهلك خمسة أيام ، كي تولِّيَ ظهرك المشؤومَ لمملكتنا إلى الأبد...فإذا
ما انقضت المهلة وبقيتَ تجرجر جسدك الكريه فوق أراضينا ، فسوف تلقى المصير الذي لا
بد أن يلقاه أمثالك ...
ثم إن الملك لير قسم مملكته بين ابنتيه غونريل وريغان،
واتفق معهما على أن يقضي شهرا عند كل واحدة منهما، بالتناوب، مع عدد من فرسانه ومقرّبيه.
ولم تمض شهور على تقسيم المملكة بين البنت الكبرى
والبنت الوسطى ،حتى تنكرت كل من غونريل وريغان لأبيهما المسنّ، ولم تعودا ترغبان في
استقباله ... هكذا وجد ليرْ نفسه في النهاية ضائعا ومشردا.
كانت ابنته كورديليا قد أصبحت عندئذْ زوجة لملك
فرنسا، فلما بلغها ما حدث لوالدها الملك، أعَدّتْ جيشا وجاءت لاستعادة مملكة أبيها
بقوة السلاح. لكنها كانت تخوض حربا خاسرة، إذْ سرعان ما انهزمتْ ووقعتْ في الأسر مع
أبيها. وفي طريقهما إلى المعتقل، قالت له:
- أيها الملك، لسنا أوّلَ من طلب الأفضلَ
فحصل على الأسوأ!
فأجابها الملك لير بقوله :
- فلنمض يا ابنتي إلى السجن ! سنغني هناك
مثل عصفورين في قفَصَيهما، وعندما تطلبين مني أن أباركك ، فسوف أفعل ذلك جاثيا على
ركبتَيّ، وسأطلب منك أن تصفحي عني. سنصلي معا ونغني معا ونروي لبعضنا بعض الأساطير
القديمة.
ثم أدرك شهريار الصباح فسكتَ عن الكلام المباح....