للناقد الأكاديمي المصري صلاح فضل، أفضال في مجال
النقد الأدبي العربي المعاصر، وهو يعتبر من رموزه. وعبر عشرات الكتب تطرق فضل إلى مسائل
نقدية مختلفة وعالج الكثير من النظريات وبشّر ببعضها، فضلاً عن مئات المقالات النقدية
التي نشرها في عشرات المجلات والدوريات الثقافية العربية. وفي سلسلة «رؤى نقدية» التي
تصدرها «الدار المصرية اللبنانية» في القاهرة، والتي يشرف عليها فضل، ثمة ما يلفت عند
قراءة المقدمة التي تصاحبها، إذ يتحدث فضل في تلك المقدمة عن خوف الناقد الراحل علي
الراعي من التعرض لمجاعة نقدية في زمانه على رغم أن ذلك الوقت حَفل بالكثير من الأسماء
اللامعة.
هنا حوار معه:
كتبتَ من قبل أن علي الراعي حذّر في زمنه من «مجاعة
نقدية»، فماذا عن حال النقد الآن؟
- في تاريخ الثقافة العربية توجد ندرة دائمة
في النقد الحقيقي، وأذكر أنه منذ خمسة عشر عاماً وُكل إليّ أن أكتب قائمة بأسماء النقاد
العرب القدامى والمحدثين، وفوجئت بأنهم يعدون بالعشرات بينما الأدباء يعدون بالآلاف.
أدركت وقتها أن الناقد الحقيقي هو قاضي محكمة دستورية كي يكون له تأثير في توجيه حركة
الإبداع والفكر، وهذا ليس سهلاً على الإطلاق، وقد تكتب عشرات المقالات عن عمل واحد
ولكنها تخلو من عطر النقد وقدرته على التبصر.
مع تولي تنظيم «الضباط الأحرار» حكم مصر بدأت حالة
منع الأقلام وضرورة أن يكون النقد موالياً للسلطة. ومع السادات استمرت الأمور على ذلك
النحو. أما خلال حكم مبارك الذي امتد لثلاثين عاماً، فإن النقد أصبح شيئاً غير مرغوب
فيه وتدهور حاله ككل شيء آخر تدهور خلال تلك الفترة.
المجاعة الآن حقيقة فاقَمها انقطاع حركة التواصل
مع المصادر المعرفية في العالم منذ عام 1965 وفي وزارة علي صبري (في عهد عبد الناصر)
صدر قرار شؤم بإلغاء كل الميزانيات الكبرى المخصصة للبعثات الجامعية في العلوم الإنسانية
والطبيعية وأصبحت الجامعات تعتمد فقط على المنح التي تقدم لها، وهكذا بدأ تفريغ الجامعات
من العقول الكبرى. لم يعد بوسع جامعة أن تخرج طه حسين آخر وهذه كارثة. نحن لا ننفق
على التعليم والفكر فكيف نحصد من دون أن ننفق ونجهد أنفسنا؟ لم يعد الأساتذة المصريون
يقرأون إلا بالعربية ومع ذلك يتفاخرون بجهلهم بدعوى أنه تكفيهم العودة إلى التراث.
في السنوات الأخيرة برز كتّاب ونقاد من المغرب العربي
ومنطقة الخليج... كيف تتابع هذا التحول؟
- كانت مصر ومعها سورية والعراق ولبنان هي
منابع الثورة الفكرية والإبداعية للعرب جميعاً حتى نهاية الستينات، ومع سبعينات القرن
الماضي دخلت منطقتان جديدتان هما المغرب العربي والخليج العربي وهما تربتا على الثقافة
المصرية، ولكن ساعد على ازدهارهما أخيراً التقدم الاقتصادي في بلادهم الذي أنعش الحركة
الإبداعية والفكرية. في الخليج تم تبني عدد كبير من الجوائز الأدبية المهمة. ومع الوقت
لم تنافس الأصوات الإبداعية الجديدة في هاتين المنطقتين المبدعين المصريين فقط بل تفوقوا
عليهم في بعض الأوقات، باستثناء مجال واحد وهو النقد الخلّاق. للنقد قصة أخرى، فهو
مرتبط بالجذور الحضارية ويرتبط بحركة الحياة والتطور المعرفي، والنقاد المصريون صنعوا
لغة نقدية ليس من السهل على الآخرين الوصول إلى مستواها من النضج. لدينا طه حسين، عباس
العقاد، علي الراعي، رجاء النقاش، غنيمي هلال، لويس عوض، محمود أمين العالم... وآخرون.
ليس من اليسير مطلقاً أن تنتج مثلهم ثقافة إقليمية كالخليج أو الثقافة المغاربية لأنها
لا تزال تصنع استراتيجيتها وتنضج مواهبها.
تتحدث عن انصراف تام عن دعم التعليم وتغذية الفكر
والمعرفة... هل في ذلك تفسير لموجات العنف والإرهاب التي تضرب المنطقة؟
- نحن نغذي التطرف كل يوم بمناهضتنا للحرية
وفقدان بوصلة المستقبل وتغليب الخرافة على العلم وإهمال تيارات الإنتاج المعرفي الحقيقي.
كم مركز بحث علمي رصدت لها ملايين وأنتج معرفة في الوطن العربي؟ للأسف ميزانيتنا كلها
مخصصة للتسليح والعداوات وصناعة الأحقاد واللوجيستيات المغذية لها والحروب الداخلية.
حققت قصيدة النثر حضوراً وانتزعت اعترافاً بها وصار
لها مريدون الآن في حين تراجعت قصيدة التفعيلة ومن قبلها الشعر العمودي... ماذا عن
الشعر العربي الآن؟
- تشرذمَ الشعراءُ. أصبح كتّاب قصيدة النثر
هم الشيعة وكتاب التفعيلة والعمودي هم السُنة، وبين الفريقين صراعات كبيرة مع إن الأشكال
الأدبية تملك حق التعاصر والخلق والإبداع. تصور الشبابُ أنهم كي يكونوا حداثيين عليهم
أن يقتلوا الجرس الموسيقي وينفروا من الكلمات ذات الإيقاعات الجميلة التي تحدث التواصل
الجمالي مع المستمع، فالذائقة الشعرية العربية تعتمد على الموسيقى بالأساس. استغنى
الشعراء عن الجمهور واكتفوا بأنفسهم، وهذا لا يصلح.
أود أن أشير إلى أن الشعر الغنائي تطوّر، وأنا أعتبر
أن الأغنية هي رغيف الخبز اليومي مِن الشعر الذي لا يستغني عنه أحدٌ، فهي ما يبقي جذوة
الشعر حيّة لدى الشعب ولكننا لا نبذل الجهد الكافي للرقي بالأغاني والإعلان عن مسابقات
مثلاً للأشعار الغنائية.
وماذا عن المسرح الشعري؟
- للأسف؛ خاب أملي بعد أن توقعتُ ازدهار هذا
الجنس الأدبي البديع الذي أغريتُ بكتابته عبد الوهاب البياتي وأدونيس وسعدي يوسف وكنتُ
ألح عليهم في ذلك وكانوا يخجلون أن يعترفوا أن مسألة خلق دراما شعرية يحتاج إلى موهبة
خاصة جداً. وأذكر دائماً المجهود الجبار الذي بذله صلاح عبد الصبور لإنتاج مسرح شعري.
كان عبد الصبور يبدأ بترجمة إليوت؛ وأشبهه في ذلك بصبي الميكانيكي، فالشاعر عندما يترجم
دراما شعرية يكون كالصبي، فيحاول إدراك أسرار الدراما الشعرية.
ازدهرت الرواية العربية خلال السنوات الأخيرة في
شكل كبير... هل بإمكاننا المنافسة عالمياً في هذا المجال؟
- أصبحنا منافسين يعتد بنا بأعمال عشرات المبدعين
في الأقطار العربية. هذه الأعمال لا بد أن تُتَرجم. نعيش مرحلة خلال العقدين الأخيرين
توازي مرحلة الانفجار الروائي في أميركا اللاتينية خلال عقدي السبعينات والثمانينات.
الرواية العربية الآن في أوج ازدهارها ولا تحدها أي كوابح أخلاقية أو دينية أو فنية.
كل يوم تجد أعمالاً مبهرة. أصبحتُ أنتظر معجزة كلما أمسكتُ بروايةٍ لا أعرفها.
هناك فكرة الآن عن أن «فايسبوك» خلق كتاباً مِن
فراغ... ما رأيك؟
- هذا سؤال من الأسئلة التي أطرحها على نفسي
كل يوم ولا أجد إجابة لها، وكلما قرأت سيل الكتابات على «فايسبوك» استغربتُ، حيث إن
كل من تخطر في باله أي حماقة يكتبها فوراً وينتظر استجابات الأصدقاء، فإذا كانت إيجابية
ظنّ نفسه مبدعاً. هناك حدود فاصلة بين الكتابة والأدب، بين الفن والثرثرة، بين الثقافة
واللاجدوى، وهذه الحدود لم تعد واضحة لافتقارها إلى المُنظر النقدي الدقيق الذي لا
يرفض كل شيء ولا يقبل كل شيء وإنما يؤثر الفحص والتأني وترسيخ منظومات قيمية جمالية
وفنية وتطبيقها على الكتابة. هناك من يميل للفوضى ويفرح بها وهؤلاء الضعاف، ففي الفوضى
يختلط الحابل بالنابل.
خلال الفترة الأخيرة تكرّرت دعوات لإلغاء وزارة
الثقافة المصرية... ما رأيك؟
- نحن بلد نامٍ واهتمامات رجال الأعمال بالثقافة
صفر. عشتُ في بلاد كانت البنوك والمؤسسات التجارية هي التي تمول الثقافة وترعاها، ولا
يمكن أن يحدث هذا عندنا فنادراً ما تجد رأس مال للثقافة. وما حدث أخيراً من تبني نجيب
ساويرس «مهرجان الجونة» هو حدث عبقري. لكن هذا حدثٌ نادر، ولذلك نجد أن الدولة هي الحاضنة
الوحيدة للثقافة. الوزارة تحتاج إلى إعادة هيكلة ومضاعفة الميزانيات وتفعيل دورها أكثر
من ذلك.
انطلاقاً من كون الثقافة لا تنفصل عن السياسة وكل
منهما يرتبط بالآخر... كيف تقيّم الوضع السياسي منذ ثورة 2011؟
- نجت مصر من فخ الحكم الديني للإخوان وتولت
القبضة العسكرية إعادة تنظيم حواف المجتمع والسيطرة على حالة الفوضى، ولكن عيبها الأكبر
هو أنها تنفخ في جذوة الديموقراطية لتطفئها؛ لا لتنعشها، وهي لا تؤمن بها كضرورة مستقبلية.
تم تهميش المشروع الديموقراطي تماماً وأبرز هذه الظواهر يتشكل في فقدان البوصلة الموجهة،
والبرلمان المصري هو نموذج لذلك ومعه القضاء والفتاوى الدينية. إذ تنبعث إشارات من
هذه البؤر الثلاث تشير إلى تدهور ثقافي رهيب، وتحديداً الفتاوى الدينية المتطرفة التي
لا تبتعد عنها العقلية الأزهرية، فنحن لدينا فتاوى بإرضاع الكبير ومضاجعة الزوجة المتوفاة
وغيرها من العلامات التي تدل على أننا خارج السياق الحضاري برمته. المؤسسة الدينية
المصرية ترفض التجديد وتعادي الفكر والعلم. وعندما حاول محمد عبده في الماضي أن يطور
العقلية الدينية لم ينجح فخرج من الأزهر وأسّس كلية دار العلوم وسعى لإنشاء الجامعة
الأهلية لأن الأزهريين كانوا العقبة الشديدة، ولا يزالون، أمام تجديد الخطاب الديني.
أنت ترى إذن أن الأزهر هو ما يقف عقبة نحو تجديد
الخطاب الديني؟
- طبعاً. نحن لدينا نصف مليون طالب تقريباً
يدرسون في المعاهد الأزهرية في محافظات مصر وأنا أسأل: هل نحن في حاجة إلى نصف مليون
عقل مصري يشتغل باللاهوت؟ بالطبع لا.
الخطوة الأولى لتجديد الخطاب الديني هي إدماج هذه
المعاهد في التعليم العام وتغيير المناهج في شكل جذري ومن دون ذلك لن يتجدد شيء. المسؤولية
عامة وشاملة ولا يجب أن نعتمد على السلطة السياسية فقط لأنها لا تعي شيئاً وتنافق المؤسسة
الدينية الرسمية المتمثلة في الأزهر كي تكسب ودها. طوال تاريخنا يسعى السياسيون لكسب
ود رجال الدين ليضمنوا شرعية ما. لا بد من حركة مجتمعية كبيرة وواسعة لإجبار السلطة
على تغيير المفاهيم الدينية المغلوطة وتجديد الخطاب الديني المهترئ.
واستمراراً لحديثي عن الممارسات التي تدل على أننا
خارج السياق الحضاري هو ما طرحه البرلمان المصري أخيراً لتمرير قانون يجرم سبّ الرموز
التاريخية والدينية وهذا منافٍ للاتجاه الحضاري العام الذي ينحو لتقليص مساحة المقدس
قدر الإمكان ولكن الاتجاه السائد لدينا ينحو إلى تقليص مساحة الحرية في قانون الجمعيات
الأهلية أو قانون النقابات. لا يدرك البرلمانيون عندنا أن هناك منظومة قيم تتبدل من
فترة لأخرى. ففي القرنين الماضيين كانت القيمة العلمية هي القيمة الكبرى ولكن منذ منتصف
القرن العشرين باتت الحرية هي القيمة الأهم التي ينشغل بها العالم كله. للأسف المشرعون
المصريون لا ينتجون إلا كلّ ما يقلص الحرية ويعادي التعبير ومساحات الرأي.
ولكن ماذا عن مؤتمرات الشباب التي تبنتها الدولة
المصرية؛ وآخرها «منتدى شباب العالم» في شرم الشيخ؟
- كنتُ سعيداً به ولكن انتابتني الحيرة عندما
فهمتُ أن الهدف من المؤتمر هو التحريض السياسي وحث الشباب على الاشتغال بالعمل العام.
لنضع الأمور في المعادلة التالية: أنت تحرض الشباب على السياسة ولكن أين يمارسونها؟
أنت تمنعهم في المدارس والجامعات، وتمنع الاتحادات الطلابية قسراً ولك عذرك في ذلك،
كما تمنع الاشتغال بالسياسة في الشارع بقانون حظر التظاهر. بقي منفذ واحد وهو الأحزاب
وأنت تعوّدت على حنق فكرة الأحزاب ذاتها وسد الأفق أمامها وجرّبت ألف وسيلة لتخنق حزباً
في مهده طوال عقود مضت. وإذا كانت الحرية هي المقدس الإنساني الجديد، فإن صندوق الانتخابات
هو أيقونة هذا المقدس. هذا تناقض واضح.
عن الحياة اللندنية
This article has been published at alhayat.com.
Unauthorised replication is not allowed.