كتب المنظر الإخواني المعروف في مجال فقه القانون، عبدالقادر عودة، يقول “مصدر الشريعة هو الله لأنها تقوم على الدين الإسلامي وهو من عند الله… أما مصدر القوانين الوضعية فهو البشر الذين يقومون بوضع هذه القوانين، ويترتب على كون الشريعة الإسلامية من عند الله نتيجتان هامتان:
النتيجة الأولى: احترام القواعد الشرعية احتراما تاما سواء من الحاكم أو المحكوم لأن كليهما يعتقد أنها من عند الله! (أي القواعد) وأنها واجبة الاحترام، فنسبة الشريعة إلى الله أدت إلى احترام الأفراد لها وطاعتها، وكل شريعة في العالم تقدر قيمتها بقدر ما لها في نفوس الأفراد من طاعة واحترام، وليست في العالم اليوم شريعة تداني الشريعة الإسلامية في ما لها من سلطان، ولا شك أنه كلما احترم الأفراد شريعتهم استقرت أمورهم وحسنت أحوالهم وتفرغوا لشؤون دنياهم.
النتيجة الثانية: ثبات القواعد الشرعية واستمرارها، ولو تغير الحكام أو اختلفت أنظمة الحكم، فيستوي أن تكون الهيئة الحاكمة محافظة أو مجددة، ويستوي أن يكون نظام الحكم جمهوريا أو ملكيا، فإن ذلك لن يؤثر على القواعد الشرعية في شيء ما، لأن القواعد الشرعية لا ترتبط بالهيئة الحاكمة ولا بنظام الحكم وإنما ترتبط بالدين الإسلامي الذي لا يتغير ولا يتبدل، والذي يؤمن به كل حاكم ويستخدم له كل نظام، وليس الأمر كذلك في القوانين الوضعية التي يضعها الحكام لحماية المبادئ التي يعتنقونها، وخدمة الأنظمة التي يقيمونها، فإن هذه القوانين عرضة للتغيير المستمر، وفي طبيعتها عدم الاستقرار”.
هنا لا نظن بأن الأمر ينم عن جهل عبدالقادر عودة بكيفية تطور القوانين في الغرب، وهو الدارس للقانون، وإنما يتعلق الأمر بنوع من التمويه الشعبوي لغاية التأثير الأيديولوجي على الجموع المسلمة.
ولأن الادعاء بأن بعض الأمور معلومة بالضرورة ليس سوى خديعة وذريعة، يجب علينا أن نعيد طرح السؤال مجددا، ما المقصود بالشريعة؟
الشريعة، باتفاق الأصوليين والفقهاء والباحثين المتخصصين، اجتهاد نخبة من أهل الاختصاص في فهم مسائل الدين، وهي بذلك صياغة بشرية اجتهادية لقواعد وأحكام الدين، أو كما يقول ابن القيم الجوزي، نفسه في سياق ترجيحه لحجية الإجماع “فالأولى الِاتباع وترك الابتداعِ، والدليل السمعي القاطع في ذلك أَن إجماع الأمة حجةٌ متبعةٌ، وهو مستند معظم الشريعة”.
في كل الأحوال، ليست الشريعة بكلام الله، ولا هي بكلام الرسول، ولا هي حتى بكلام الصحابة، بل الشريعة هي كلام الفقهاء حصرا. الشريعة هي ثمرة الجهد التشريعي الذي بذله عشرات الفقهاء على مدى عشرات السنين وهم يحاولون أن يستنبطوا من النص القرآني، ومن نص الحديث، إضافة إلى بعض أقوال الصحابة والتابعين في بعض الأحيان، بعض الأحكام والقوانين العامة، والتي يحاولون من خلالها الإجابة عن مسائل لا تشملها نوازل النص الأصلي، ولا تشملها أسباب النزول. وهم في كل ذلك يستعملون آلية القياس. والقياس معناه الشروع في البحث عن حالة مشابهة سبق أن تكلم عنها القرآن أو السنة أو أحد الصحابة، أملا في تطبيق نفس الحكم.
بهذا النحو فإن الشريعة محصلة جهد تشريعي بشري أفضى في آخر المطاف إلى عشرات الأحكام الترجيحية في تفاصيل كلّ مسألة أو نازلة على حدة. وهو الجهد النظري الذي يعبر من حيث مفاهيمه وقيمه عن عصر التوسعات الإمبراطورية. لذلك جاءت المفاهيم والقيم الأساسية للشريعة كانعكاس لحاجيات ذلك العصر.
الحقيقة الضائعة أنّ الشّريعة ليست العقيدة بأي حال، ولا هي “معلوم الدين بالضرورة ” كما يقال من باب التعمية والتمويه، ليست الشريعة منطوق الوحي، ولا أقوال الرسول، لكنها كلام الفقهاء. ومن جهة أخرى، فإنّ ذلك الجهد الفقهي المسمى بالشريعة قد جاء موسوما بمفاهيم العصر الإمبراطوري الذي نشأ فيه، عصر التوسعات الإمبراطورية، ما جعله في النهاية، غير متناغم مع عصر الدولة الوطنية الذي يفترض أنّنا دخلنا إليه منذ عقود، بل لعله يمثل عائقا كبيرا أمام بناء دولة المؤسسات الحديثة، أو الأدهى من ذلك كله أن ذلك الجهد التشريعي لم يعد متناغما أيضا مع زمن العولمة، وما يحتاجه هذا الزمن من ترسيخ لقيم التضامن الإنساني، وحفظ النوع البشري، بمعزل عن العصبيات الدينية والمذهبية.
إن ما تطلبه تيارات الإسلام السياسي، من وراء إطلاقها لشعار تطبيق الشريعة، ليس الدين، وإنما سلطة الدين، والتي في آخر المطاف سلطتهم بالذات.
ومعلوم أيضا أن إسلاميي الجزائر حين حُرموا من الحكم بعد إلغاء نتائج الانتخابات، وكان زعيمهم علي بلحاج، قد توعد بنفسه بأنها ستكون الانتخابات الأخيرة قبل تطبيق شرع الله، فقد سعوا إلى استدراك الأمر عن طريق الإرهاب وحرب العصابات. وحتى لو أخذنا بعض التهم الموجهة للمخابرات العسكرية بعين الاعتبار فإن مسؤولية الحركة الإسلامية تبقى ثابتة من خلال الفتاوى المدوية والصادرة عن عشرات الشيوخ المعروفين والمحسوبين على تيار الإسلام السياسي.
إن دليل الإثبات الأبرز على عدم وجود أي عنصر تشريعي مناسب للعصر ضمن ما يسمى بالشريعة الإسلامية، هو استغناء إسلاميي المغرب وتونس عن المطالبة بالشريعة مباشرة عقب وصولهم إلى السلطة. فمجرد حفاظهم على هامش التمكين أصبح رهينا بالتخلي عن المزايدات التي قد تصلح للنفير في زمن تسيير الاحتجاجات لكنها لا تصلح للتدبير في زمن تسيير المؤسسات.
لكن، ربما لهذه البرغماتية غير المبررة نتائج عكسية: فلقد نسج الإسلام السياسي لشباب جيل “الصحوة الإسلامية المباركة” آمالا عظيمة وأوهاما كبيرة. وعلى قدر الآمال تأتي خيبات الأمل.
عن العرب اللندنية