مؤخرا أصدر مثقفون تونسيون بينهم شعراء وكتاب وباحثون
وأكاديميون وأطباء وفنانون بيانا عبروا فيه عن غضبهم من “الممارسات الفاشية الزاحفة”
و”المدمرة”،
ومن “التهاب الأسعار”، ومن “انتفاء الطبقة الوسطى”، ومن “الأحزاب التي
لا تعمل من أجل مصلحة الوطن” بل من أجل “مصالحها الخاصة”، ومن “علامات انهيار الدولة
ومؤسساتها”، ومن مظاهر أخرى باتت تسم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية
والأخلاقية مشيعة اليأس والقنوط بين التونسيين بجميع فئاتهم ومراتبهم.
كان سقوط نظام زين العابدين بن علي في الرابع عشر
من شهر يناير 2011، قد أثار ابتهاج جل المثقفين التونسيين الناشطين في كل المجلات معتقدين
أن كل القيود، وكل الموانع، وكل المحرّمات انجلت لتكون حريتهم بلا حدود، وبلا شروط.
لذلك نزلوا إلى الشوارع بأعداد وفيرة ليعبروا عن فرحتهم العارمة بـ”ثورة الياسمين”،
أو “ثورة الكرامة والحرية” رافعين شعار “لا خوف بعد اليوم”. ومنهم من دّبج قصائد عصماء
في مدح الثورة. وكثير منهم تنكروا لموالاتهم لنظام بن علي ليتحولوا بين عشية وضحاها
إلى “ثورجيين” يتبجحون بنضالات مزعومة وببطولات وهمية، كاشفين عن انتهازية بشعة.
المثقفون التونسيون
فرحة المثقفين التونسيين بـ”الثورة” لم تدم طويلا.
فسرعان ما ذوت أحلامهم وآمالهم خصوصا بعد أن قام سلفيّون متطرفون بالهجوم على معارض
للفن التشكيلي، وتدمير اللوحات التي كانت معروضة. كما قام هؤلاء بالاعتداء بالعنف الشديد
على مجموعة من الشبان والشابات أمام قاعة “أفريكا” بقلب العاصمة. وراحت التهديدات بـ”تكميم
أفواه، وشل أيدي من يعادون الدين، وينشرون الفسق والفساد في البلاد” تتهاطل بغزارة.
وفي أقصى الجنوب التونسي، على الحدود مع ليبيا،
رفض “أمير سلفي” التحدث إلى المخرجة المعروفة سلمى بكار التي كانت تعد فيلما وثائقيا
عن اللاجئين الليبيين، وأمر أنصاره الهائجين بطردها فورا. وأما وزير الثقافة والمحافظة
على التراث آنذاك السيد عزالدين باش شاوش والذي كان من خدم نظام بن علي الطيعين، فقد
أوقف أشغال بناء “مدينة الثقافة” باعتباره “مشروعا ستالينيا” (نسبة إلى الزعيم الروسي
ستالين). وبسبب ذلك ظل مشروع مدينة الثقافة مهملا ولم يتم إنجازه إلا في ربيع العام
الحالي.
وفي عهد حكومة الترويكا التي ترأستها حركة النهضة
الإسلامية، ازدادت الأوضاع الثقافية سوءا. فقد بادر وزير الثقافة والمحافظة على التراث،
المهدي المبروك المقرب من الحركة المذكورة، بتخفيض ميزانية الوزارة المذكورة لصالح
وزارة الشؤون الدينية.
وقد أغضب هذا الإجراء جل المثقفين فانطلقوا ينددون
به عبر المنابر الإعلامية من دون أن يولي الوزير أي اهتمام بالأمر. بل إنه سكت عن البعض
من أعمال العنف التي ارتكبتها مجموعات سلفية متطرفة في مناطق مختلفة من البلاد. وخلال
فترة حكومة الترويكا، والتي امتدت إلى سنتين، فقدت تونس العديد من الفنانين والمبدعين
جراء جلطات دماغية وقلبية قد يكون سببها الأزمات النفسية التي كانوا يعانون منها جراء
الخيبات والإحباطات التي مُنيوا بها
بعد انتخابات خريف 2014، التي أفضت إلى انتصار حزب
نداء تونس الوسطي الذي يتزعمه الباجي قايد السبسي، استعاد المثقفون التونسيون أملهم
في أن تشهد الثقافة التونسية انطلاقة حقيقية، وحيوية توفر مناخ الحرية، والظروف المادية
والمعنوية التي يحتاجها الفنانون والمبدعون في أعمالهم ونشاطاتهم. إلا أن الأوضاع ظلت
على حالها، بل لعلها ازدادت سوءا. ويعود ذلك إلى ظهور “مافيات” ثقافية وفنية تعمل من
أجل مصالحها مهملة مثقفين وفنانين يعانون أوضاعا مادية مزرية. وقد سيطر على هذه “المافيات”
جامعيون لا يخدمون سوى مصالحهم الخاصة ومصالح المقربين منهم. كما سيطر عليها “جيش البيروقراطيين”
الذي يتحكم في وزارة الثقافة ومؤسساتها مواصلا عمله بنفس النسق القديم، معرقلا النشاطات
الثقافية، مقيما حواجز يصعب اجتيازها أمام أصحاب المبادرات التي تهدف إلى بعث الحيوية
التي تحتاجها الحياة الثقافية المتسمة منذ عقود طويلة بالركود والجمود والرتابة.
بالإضافة إلى ذلك، سيطرت الأحزاب السياسية التي
يربو عددها على ما يزيد عن 200 حزب على الحياة السياسية، فلم يعد التونسيون يسمعون
أصواتا أخرى غير أصوات زعماء هذه الأحزاب وأنصارها ليجد المثقفون المستقلون أنفسهم
منبوذين ومنسيين تماما من هذا المشهد. فلا يسمع لهم رأي لا في المجال الذي يعنيهم،
أي الثقافة، ولا في السياسة، ولا في الاقتصاد، ولا في أي مجال آخر من المجالات. بل
إن بعض الأحزاب التي تتمتع بنفوذ قوي، سمحت لنفسها بالتدخل في البرامج التلفزيونية
والإذاعية وفي المنابر الإعلامية لمنع البعض من المثقفين من الإدلاء بآرائهم في شأن
من الشؤون. كما أن هذه الأحزاب لا تتردد في ممارسة الضغوط بطرق مختلفة، خفية أحيانا،
وواضحة أحيانا أخرى لتعطيل مبادرات ثقافية وفنية.
خيبة قديمة
الحقيقة، إن خيبة المثقفين من الثورات ليست جديدة.
وعندما كان زعماء الثورة الفرنسية ينصبون المشانق في الساحات العامة ضد من كانوا يصفونهم
بـ “أعداء الثورة”، كتب المفكر الكبير جوزيف دو ماستر يقول “كل شيء سيء بأعجوبة في
الثورة الفرنسية”. وكان يرى أن قادة الثورات هم في الحقيقية “آلات”، و”أجهزة” يستعملها
“مجرمون”، و”فاسقون”.
وفي البداية تحمس الفيلسوف الروسي نيكولا باردييف
للأفكار الثورية التي كان يروجها البلاشفة. لكن حالما استلم هؤلاء السلطة، شعر باردييف
أن الحرية التي يعتبرها مبدأ أساسيا في تفكيره الفلسفي باتت مهددة من جديد، ففر إلى
المنفى ليموت بعيدا عن بلاده.
وبسبب خيبتهم من الثورة، انتحر كتاب وشعراء روس
مثل ماياكوفسكي، وايسنين، أو هم فضلوا الصمت، أو الهروب إلى المنافي. والذين أظهروا
رغبة في المقاومة، قتلوا أو أرسلوا إلى معسكرا سيبيريا، أو إلى المصحات العقلية. وكذا
كان حال المثقفين في الصين، وفي جل البلدان الشيوعية
وعقب مرور عام واحد على اندلاع الحرب الأهليّة الإسبانية،
قرّر الكاتب البريطاني جورج أورويل الانضمام إلى “الألوية العالمية” التي تضمّ مناصرين
للجمهوريين. وخلال الأسابيع الأولى، أصيب برصاصة كادت تضع حدّا لحياته. وفي المستشفى
اكتشف الصراعات القاتلة بين مختلف التيارات اليسارية. ومذ تلك اللحظة، شرع في تدوين
ملاحظاته التي ستكون موضوع كتابه “تحيّة إلى كاتالونيا”. وفي هذا الكتاب أدان الشيوعية،
والتطرف، وهاجم الستالينية بحدة، معتبرا الشيوعيين فاشيين مثل النازيين والفاشست الطليان.
وفي رسالة بعث بها إلى أحد أصدقائه، كتب يقول “إنّ
أفظع شيء لن يتمكن إلا القليل من إدراكه من الذين يعيشون خارج إسبانيا هو أنّ الشيوعيين
أكثر يمينيّة من الليبراليين في ملاحقتهم للثوريين وفي تدميرهم للأفكار الثوريّة”.
وخشية أن ينتبه الشيوعيّون إلى الملاحظات التي كان بصدد تدوينها، سارع جورج أورويل
بمغادرة إسبانيا سرّا بصحبة زوجته التي كانت قد التحقت به هناك. بعدها قطع صلته نهائيّا
بكلّ التيّارات الاشتراكية واليساريّة. وفي ما بعد أصدر جورج أورويل روايتيه الشهيرتين
“1984”، و”مزرعة الحيوانات” اللتين تعتبران من أروع العمال الأدبية التي تدين الثورات،
وتفضح أوهامها وأكاذيبها وجرائمها.
العرب اللندنية