قال الكاتب الأردني الساخر كمال ميرزا انه لا يوجد كاتب يحدد أسلوبه سلفا إلا إذا كان مقلدا أو متكسبا،وأن تعليم فن الكتابة هذه الأيام عبر ورش عمل ،يشبه تماما تعليم فن
الطبخ ،مشددا ان الكتابة الساخرة هي كتابة مفرطة في الجدية.وأضاف في حوار اجرته معه “المجلة الثقافية الجزائرية”، أن البيئة الريفية التي عاش فيها هي التي اكسبته فن الكتابة الساخرة لأنها حاضنة جيدة للسخرية والمناكفة والمجاكرة والمنابزة بالألقاب،مؤكدا أن الأردن بفقدانه الكاتب الساخر بإمتياز محمد طمليه فقد فرصة حقيقية لتطور هذا الفن المميز. وإلى نص الحوار:
ما الذي جعلك تختار الأسلوب الساخر في كتاباتك؟
لا أظن أن هناك كاتب في مجال الكتابة الإبداعية يختار سلفا الأسلوب الذي سيكتب به، ما لم يكن هذا الكاتب طبعا مُقلّدا أو مُتكسّبا أو “موظّفا” يكتب بالقطعة حسب الطلب!
واستغرب من الكتاب الذين يقولون أنهم “يشتغلون” على أسلوبهم في الكتابة، ولا أدري ماذا يقصدون بكلمة “يشتغلون”؟!
نعم، الكاتب يتطوّر عبر الزمن، وكلمة تطوّر هنا لا تعني بالضرورة نحو الأفضل. ولكن هناك فرق بين تطوّر طبيعي هو نتاج التقدّم في العمر وتراكم التجارب والخبرات وتبدّلات الحالة النفسية، مع احتفاظ الكاتب بسماته الأساسية التي يمكن تشخيصها والتعرّف عليها، وهذا برأيي جزء مما اصطلحنا على تسميته بـ “الأصالة”.. وتطوّر سرطاني شاذ، كمّا ونوعا، ضمن الجنس الأدبي الواحد، أو عبر مختلف الأجناس الأدبية والإبداعية، بحيث يغدو هذا الكاتب مسخا لا تعرف له رأسا من قدمين!
“الاختيار” و”الاشتغال” هما مؤشران على مدى طغيان “الصنعة” على الكتابة الأدبية والإبداعية، وهذا بدوره مؤشر على تغوّل النزعة الاستهلاكية وتحوّلها إلى المرجعية النهائية لكل شيء، مرجعية المصنع والسوق والعرض والطلب.
نحن نرى اليوم إعلانات تجارية لورشات تدريبية مدفوعة الثمن تعلّمك فن كتابة القصة، أو الرواية، أو الشعر بتنويعاته وتقليعاته، أو أي جنس أدبي وإبداعي آخر تريده، يكفي أن تمتلك الرغبة والملاءة المالية وقطيع من المتابعين عبر مواقع التواصل الاجتماعية، والباقي سهل، ولك حرية الاختيار، أن تتعلم فن الكتابة، أو فن الطبخ، أو كيف تصبح قائدا في ستة أيام.. والزبون دائما على حق!
هناك أكاديميون ومفكرون يستخدمون مصطلح “الصناعات الثقافية” بكل “تناكة” و”ألاطة” حسب تعبير الأشقّاء المصريين، بل أن هناك محاضرات تُعطى وندوات تُنظّم ومؤتمرات تُعقد من وحي هذا المصطلح، من دون أن يعي هؤلاء حجم الكارثة، وحجم التفكيك، وحجم السيولة، وحجم نزع المعيارية، وحجم التحكم والسيطرة.. الكامنة جميعها وراء النظر للثقافة باعتبارها صناعة، وتكريس المنتج الثقافي باعتباره سلعة!
الذين نحتوا هذا المصطلح أرادوا منه أن يكون “نقديا” و”رافضا” و”متجاوزا”، لكن نقادنا جعلوا منه مجرد إنشاء “منغلق على نفسه” يرددونه كالببغاوات، و”كلاما كبيرا” يصلح “للبهورة” و”المنظرة” يصدر عن طبول جوفاء، وجعجعة إعلامية ودعائية يرددها مفكّرون أصبحوا مفكرين على طريقة “تعلّم البيطرة بحمير النور”، وأكاديميون يمارسون أكاديميتهم على طريقة “كالحمار يحمل أسفارا”!
بالعودة إلى نص السؤال، ربما نشأتي في بلدة أقرب إلى الريفية مثل “جرش”، متنوعة الأصول والمشارب ضمن حيّز جغرافي محدود.. هو ما غرس حس السخرية داخلي، بكون السخرية والتهكّم و”المجاكرة” و”المعايرة” والتنابز بالألقاب هي من الممارسات اليومية الاعتيادية في البيئات الريفية.
وربما السبب نشأتي في كنف عائلة مشهورة بحضور البديهة وقوة الشكيمة وسرعة الرد وسلاطة اللسان، ووالد هو ساخر بالسليقة ما يزال طلابه و”أبناء البلد” يرددون للآن مقولاته وتعبيراته وتوصيفاته التي يكاد بعضها يجري مجرى الأمثال.
أو ربما يكمن السر في تفتّح وعيي كمراهق في فترة التسعينيات، وهي نفس الفترة التي بدأت تتبلور فيها ميولي نحو الصحافة والكتابة، ومعلوم أن فترة التسعينيات قد شهدت طفرة في مجال الصحافة الأسبوعية في الأردن، وخاصة الصحافة الساخرة التي يرتقي بعض كتابها ليصلوا حد الأدب الساخر.
أو لعلها جميع هذه العوامل مجتمعة.
وعموما، أنا أؤمن كذلك بالرأي الذي يتبناه كثير من الكتاب الذين يوصفون بالساخرين: أن الكتابة الساخرة في مستوى من مستوياتها هي آلية دفاعية لحماية هشاشة وضعف الداخل من قسوة وتسلّط العالم الخارجي!
هل من مدرسة ساخرة تتبعها؟
لا أعرف أساسا ما إذا كان هناك شيء اسمه مدارس ساخرة ؟! هناك فقط شيئان واضحان وأساسيان بالنسبة لي بهذا الخصوص:
أولا، الكتابة الساخرة هي كتابة جادّة، بل هي كتابة مفرطة في جدّيتها، بكونها تقوم على كشف وتعرية وفضح التناقضات الكامنة في واقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي، خاصة في هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها، والتي تصل تناقضاتها حد الشذوذ والجنون.
وثانيا، السخرية كفعل جاد يرتقي مصاف الأدب هي شيء آخر غير المسخرة، وغير التهريج، وغير الابتذال، وغير لغة “الدواوين” و”نكش المخ” و”القافية” و”الإفّيهات” و”الزنّوخات” الرائجة للأسف بين جيل الشباب، تشوّه ذائقتهم وتمسخ وعيهم.
الكاتب الساخر هو كاتب صاحب رؤية نقدية وحس اجتماعي ومشروع وطني راسخ واضح المعالم، وليس مجرد “أرجوز” يحاول التكسّب ونيل الرضا وتحقيق الشهرة بأي ثمن، أو الأنكى والأخطر، تعهير كل قضية وفكرة كبرى وتسخيف كل نقاش جاد.
انظر إلى حال الكوميديانات الشباب، الواقفين والجالسين، الذين تزخر بهم المحطات والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعية!
والكتابة الساخرة هي أيضا شيء غير الإضحاك، سواء أكان إضحاكا بهدف الإضحاك أو غير ذلك. الكتابة الساخرة الحقيقية والناجحة هي التي تجعل القارئ يبكي، أو على الأقل يجفل ويتجهّم ويتأمل ويعيد مسائلة يقينه الزائف واطمئنانه الخدّاع.
حدثنا عن واقع الكتابة الساخرة في الأردن وما هو مصيرها؟
بموت “محمد طمليه” فقدنا في الأردن فرصة سانحة لأن يكون لنا أدب ساخر بمستوى وحضور يقارع أشهر الكتّاب والأدباء الساخرين عربيا وعالميا.
باستثناء مجموعتين قصصيتين يتيمتين كتبهما في شبابه، مؤسف أن يرحل كاتب مثل طمليه من دون أن يترك لنا إرثا يعتّد به من الأدب الساخر.
الكتابة اليومية للصحافة المدفوعة بضرورات ونمط العيش استنزفت طمليه الأديب، كما أن السمات الشخصية لطمليه نفسه، وبؤس المشهد الثقافي والأدبي في الأردن بمعاييره واشتراطاته ومرجعياته وتقاطعاته مع السلطة.. هما عاملان أساسيان أيضا في هذه الخسارة.
ربما لو كان طمليه الشخص بمستوى طمليه الكاتب، وربما لو كان طمليه سوريا أو مصريا أو عراقيا أو مغاربيا لكان الحال غير الحال، الأردن بيئة خانقة للإبداع والمبدعين على المستوى الاجتماعي وعلى المستوى الرسمي على حد سواء!
“إبراهيم جابر إبراهيم” بذكائه وألمعيته ولغته الثرية كان أيضا اسما واعدا في هذا المجال، ولكنه حُجب أو احتجب لا أدري، المهم أن خيار “إبراهيم” الواعي قد انحاز حاليا إلى كتابة الشعر الحر، والذي يمارسه للأمانة بكل “حرفيّة” واقتدار، ربما لملء شاغر تركه رحيل أسماء كبيرة من الشعراء المحترفين والحرفيين المكرّسين!
باستثناء هذين الاسمين، كل ما طُرح كأدب ساخر في الأردن خلال العقود الثلاثة الماضية في حدود علمي واطلاعي هو ركيك أو سخيف أو ممجوج.
أما بالنسبة للصحافة الساخرة، فقد كان هناك خلال عقد التسعينيات كما سبق وأشرت أسماء لامعة ذات حضور وانتشار، منها أسماء ما تزال موجودة ومتواصلة لغاية الآن ولكن على شكل ظلال. وهناك الذي انحاز هو الآخر إلى ضرورات العيش، وهناك الذي أعمته شهوة الوصول والمنصب، وهناك الذي دخل بين البصلة وقشرتها في أحداث المنطقة وتجاذباتها.
وحتى أمثلهم طريقة تجد كتابته سطحية لا تؤسس لحالة حقيقية ووعي حقيقي بالرغم من خفة دمه ورشاقة أسلوبه ولغته. وعموما الصحافة الساخرة في مجملها هي “حكي جرايد” مصمم للاستهلاك اليومي، قد تكون مؤثرة في حدود اللحظة والحدث، ولكن لا يعوّل عليها لتأسيس حالة راسخة وحس ناقد طويل الأمد.
انظر لجريدة “عبد ربه” قديما و”العرب اليوم” حديثا، لقد تم تصفية الجريدتين بتواطؤ واضح، وتلاشتا من وعي الناس ووجدانهم، وأصبحتا نسيا منسيا وكأنهما لم توجدا في يوم من الأيام!
وأحيانا يمكن للدور التنفيسي للصحافة الساخرة أن يكون هو نفسه عاملا مُعطّلا لحدوث التراكم المطلوب على مستوى الوعي وعلى مستوى التجربة الجمعية.
ومع دخول ما يسمى مواقع التواصل الاجتماعية على الخط، أصبح “القاري والـ….. واحد”، وأصبح عدد “اللايكات” و”الشيرات” هو معيار التمايز بين الكاتب الجيد والكاتب السيئ ساخرا كان أم غير ساخر. والمؤسف أن عدد هذه اللايكات والشيرات يتناسب في الأغلب طرديا مع مقدار سخافة الكاتب وضحالته و”أرجوزيته”!
وإذا استعرضت الأسماء ذائعة الصيت واسعة الانتشار هذه الأيام، خاصة بين فئة الشباب، ستجد أتفه الكتّاب هم أوسعهم انتشارا، يعزز من ذلك رأسمال يرفد أمثال هؤلاء بأسباب التمكين والشهرة من أجل استغلالهم وتوظيفهم تجاريا، وجهات مانحة وداعمة ودبلوماسية تكرّس أمثال هؤلاء نجوما للمجتمع وقادة للرأي وحراكيين وناشطين ومؤثّرين.
والمفارقة أن غالبية هؤلاء يمارسون مثل هذه الأدوار من دون أن يعوا حقيقة ما يمارسونه، لأنهم ببساطة أغبى وأتفه من أن يدركوا حقيقة ما يمارسونه!
بل أنك لا تستطيع أن تبدي إزاءهم وإزاء كتاباتهم وإنتاجهم رأيا نقديا بناء يفيدهم قبل أن يفيد غيرهم، فالأصعب من إقناع حمار بأنه حمار، هو محاولة إقناع حمار مكرّس ومدعوم ومعتدّ بنفسه أنه حمار!
لماذا اخترت شخصية أبو العبد متعدد الأدوار؟
للدقة، “أبو العبد” هو الشخصية الرئيسية في قصة واحدة تحمل نفس الاسم من أصل (26) قصة قصيرة، وهي بالمناسبة الشخصية الوحيدة التي لها اسم في حين أن بقية الشخصيات في بقية القصص بلا أسماء.
وبالمثل، “عبودة” هو الشخصية الرئيسية في قصة واحدة تحمل نفس الاسم في مجموعتي القصصية الأولى، في حين أن بقية الشخصيات في بقية القصص بلا أسماء.
الناقد “نزيه أبو نضال” هو الذي التقط في معرض قراءته النقدية ثيمة “عبودة” في المجموعة الأولى الذي كبر وأصبح “أبو العبد” في المجموعة الثانية (بعد أن فقد براءته). وكذلك ثيمة “أبو العبد” الذي يمكن أن يكون أي شخصية وكل شخصية في المجموعة الثانية وحتى القارئ نفسه.
بالنسبة لي أنا لم أتعمّد هذه الثيمة، على الأقل بشكل واع ومقصود. وعدم إيرادي أسماء بعينها لشخصيات قصصي هو للتأكيد على أن ما يهمني هو الظاهرة الاجتماعية أو الحالة أو الموقف، والعبرة أو الفكرة من وراء الاشتباك مع هذه الظاهرة أو الحالة أو الموقف.
وربما شخصياتي “النكرات” هي انعكاس لحالة “الاغتراب” التي يحياها إنسان هذا الزمان.
ما ذا تريد أن تقول في قصصك؟
ما أريد أن أقوله في قصصي هو ما تقوله قصصي، ولو أني أعرف طريقة أو صيغة أخرى أفضل لقول ما تقوله كل قصة لاخترت الخيار الثاني.
أظن أنني من الكتّاب القلائل الذين تتسم قصصهم بمثل هذه المباشرة التي تجدها في “عبودة” و”أبو العبد”، حتى لو كان ذلك على حساب البنية واللغة الأدبية المتعارف عليها، أو على حساب “برستيجي” ككاتب و”أديب”.
ومن حسن حظي هنا أن الأستاذ “نزيه أبو نضال”، ومن قبله الدكتور “نارت قاخون”.. قد التقطا أنني أقوم بذلك عن قصد، وليس عجزا عن كتابة الأدب بشكله ولغته التقليديين اللذين تعارفنا عليهما.
ما يهم في قصصي ليس ما أريد أن أقوله، ولكن ما أبتغيه وما لا أبتغيه من وراء الكتابة!
نعم، الكتابة بالنسبة لي فعل غائي، وليست كتابة للكتابة أو لمزاعم أدبية وإبداعية وجمالية زائفة ومدّعية ومتكلّفة.
ما أبتغيه هو أن أعرّي القارئ، أن أضعه أمام مرآة ليرى نفسه وواقعه الاجتماعي، أن ألزمه حجته، أن لا أترك أمامه فرصة لإدّعاء عدم المعرفة أو عدم الفهم، أن لا أترك أمامه فرصه لأن يزرعها في ذقن غيره.
أنا أريد أن أحمّل القارئ مسؤوليته تجاه نفسه وتجاه واقعه الاجتماعي، طبعا لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها، ليس مطلوبا منه أن يفعل شيئا بالضرورة، وليقرّ حتى بعجزه، لا مشكلة طالما أنه لا ينكر، ولا يحوّر الواقع ليلطّفه، والأخطر، لا يسقط في اللامبالاة أو يدّعيها.
وما لا أبتغيه هو أن تتحول كتاباتي في مرحلة ما إلى أبر تخدير، أو أفيون، أو ذريعة لنفاق النفس يلوذ بها أولئك الذين يسمّون أنفسهم عشّاق ومتذوّقي الأدب للهروب من الواقع والتزاماته حتى لو كان ذلك على طريقة جلد الذات أو لحس المبرد أو اجترار المراثي.
لا أريد لكتاباتي أن تكون فرصة للتطهّر، سواء بالنسبة لي أفرّغ من خلالها إحساسي بالتناقض والتوتر وأمنح نفسي إحساسا زائفا بالإنجاز وبأنني قد قمت بما ينبغي عليّ القيام به.. أو بالنسبة للقارئ الذي يجعل من القراءة فعل “تنفيس” يفرّغ الاحتقان داخله، ويمنحه القدرة على احتمال تناقضات الواقع والتعايش والتكيّف معها مرة بعد مرة بعد مرة.
ما في حدا قاري ورق….لماذا نكتب إذا؟
من حسن حظي أنني تخلصت من وهم أثر الكتابة وتأثير الكاتب منذ وقت مبكر، وأنا هنا أتحدث عن الكتابة الحقيقية، وليس عن “الخطاب”، الخطاب الذي هو لغة الدعاية، ولغة السياسة، ولغة العلم الزائف، وجميعها ذات أثر كبير بالمعنى السلبي للكلمة.
الكتابة فعل هامشي، وأنا أدين بهذا الدرس إلى شهادة إبداعية للكاتب الأردني الراحل جمال أبو حمدان حول تجربته كنتُ قد قرأتُها وأنا يافع!
هل يتناقض هذا مع قولي أن الكتابة فعل غائي، وحقيقة أنني اكتب وأنشر بالفعل؟
الجواب لا، هناك الكتابة كفعل غائي وهذه مسألة، وهناك مدى اقتناعي أو عدم اقتناعي بجدوى الكتابة وإمكانية تحقيقها لغاياتها في ظل شروط الواقع الحالي.. وهذه مسألة مختلفة تماما.
أنا أكتب لأنني يجب أن أكتب، ولأنني لا أستطيع إلا أن أكتب، كواجب أخلاقي والتزام اجتماعي قبل أن يكون ذلك حاجة نفسية.
أن تفعل ما ينبغي عليك فعله، وتجتهد في سبيل ذلك ما أمكن، أما النتائج فلا علاقة لك بها تحققت أم لم تتحقق.
محاكمة الأفعال بناء على نتائجها، وليس بناء على القيمة الكامنة وراءها دافعا ومقصدا.. هي من مظاهر تغلغل النزعة المادية التي سبق وأن أشرتُ إليها.
محاكمة الأفعال بنتائجها تشرع الباب للتنصل والتخاذل والاستكانة بذريعة عدم تحقيق الغاية أو تعذّر ذلك (أو غلاء الكلفة والثمن). وفي الاتجاه المقابل، محاكمة الأفعال بنتائجها تشرع الباب لتبني ميكافيللية اجتماعية مقيتة تبرر اللجوء إلى مختلف أشكال السفالات والنذالات بذريعة تحقيق غايات نبيلة!
حدثنا عن إصدارك الأول “عبودة”..المحتوى والعنوان؟
“عبودة.. وأربع عشرة قصة قصيرة أخرى”، هذا هو عنوان مجموعتي القصصية الأولى التي صدرت عن دار الفارابي ببيروت سنة 2016.
من حيث المبدأ قصص “عبودة” و”أبو العبد” كتبت في نفس الفترة الزمنية وتحمل نفس الجو والطابع العام، ولكن القرار حينها استقرّ على اختيار خمس عشرة قصة ونشرها تحت مسمى “عبودة”، وعندما أتيحت لي فرصة النشر مرة أخرى تم نشر بقية القصص تحت مسمى “أبو العبد”.
كما قلت قصص المجموعتين تحملان طابعا عاما واحدا، ولكن لو طُلب مني أن أكون أكثر دقة لقلت: لعل جرعة “السياسي” في مقابل “الاجتماعي” و”الديني” قد جاءت في “أبو العبد” أكبر وأكثر وضوحا منها في “عبودة”.. والعكس صحيح.
ربما هذا ما حكم منطق اختيار قصص كل مجموعة بشكل واع أو غير واع.
فرق ثان أساسي، في “عبودة” هناك طرح لرؤية بديلة مقابل كل النقد الاجتماعي والسياسي والديني الذي تضمنته قصص المجموعة، ربما تتفق أو تختلف مع هذه الرؤية، المهم أنها موجودة. ولكن في “أبو العبد” هذه الرؤية غير موجودة، أو غير ظاهرة، لذا فإن قصص المجموعة قد غلب عليها ما يسمى “النهايات المفتوحة” إذا جاز التعبير.
الإرهاب والجنس في كتابك الأخير، ما هي الرسالة؟
لا أرى أنني أركّز على ثيمتي الإرهاب والجنس وأبرزهما في قصصي إلا بمقدار ما يريد القارئ نفسه التركيز عليهما وإبرازهما.
أنا لا أتحدث عن الإرهاب والجنس إلا بمقدار حضورهما كعاملين آخرين ضمن عوامل كثيرة ترتبط بالظواهر والمواقف واللوحات الاجتماعية التي أتناولها.
وبالنسبة لكلمة “إرهاب”، أنا أدعو للتريث مرة واثنتين وثلاثا قبل استخدام هذه الكلمة.
مَن هو الإرهابي؟
حرب المصطلحات التي نخوضها ربما تكون أخطر من حرب الفتن والقتل والدمار التي نكتوي بنارها على أرض الواقع.
“الآخر” يحتكر المصطلح، ويحتكر الخطاب، ويفرضهما علينا محمّلين ومذخّرين بكل الأحكام المسبقة والوصومات والصور النمطية التي تخدم مصالحه، وتبرر وسائله، وتمنطق دمويته، وتؤنسن وحشيته، وتكرّس فوقيته وأوّليته وجدارته!
لو أتينا على سلسلة الأحداث التي اصطلح على تسميتها بـ “الربيع العربي” وسألنا أنفسنا السؤال التالي: من الذين يموتون فعليا من جميع الأطراف؟
الذين يموتون هم الأشخاص المستعدون للموت في سبيل قضية ما أو فكرة ما يؤمنون بها، بغض النظر عن مدى اقتناعنا أو عدم اقتناعنا بهذه القضية أو الفكرة، سواء أكان ذلك في سبيل الله ورفع راية الدين، أو في سبيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، أو في سبيل الوطن السيادة الوطنية.
لقد تطاول أمد الربيع العربي وتكشّفت أقنعته وتهاوت حججه بحيث لم تعد تصلح جميع التأويلات والتحليلات التي تحاول تفسير إقدام هذا الطرف أو ذاك على الموت.
لا حور عين، لا رواتب مدفوعة، لا عسف أنظمة.. الذين يموتون الآن هم المستعدون للموت في سبيل ما يؤمنون به من جميع الأطراف، والذين يبقون على قيد الحياة هم الجبناء والأوغاد والمتاجرون والمتآمرون والبرجماتيون من جميع الأطراف.
ربما من أهم أهداف مثل هذه الفتن هو التخلص من هذه الفئة المزعجة من البشر، البشر المخلصين المستعدين للموت في سبيل مبادئهم!
نعم، هناك تزييف للوعي وتشويه للوعي كل من جانبه، سواء أكان الوعي الديني، أو الوعي الثوري، أو الوعي الوطني.. ولكنني هنا أتحدث عن نوعية البشر وليس عن وعيهم ومستوى فهمهم وإدراكهم.
ماذا لو وقعت هذه النوعية من البشر في الأيدي الصح والفهم الصح والوعي الصح بدلا من الأيدي والفهم والوعي الخطأ؟ ماذا سيكون حالنا؟
هي حرب تطهير لكل شريف أو مشروع لشريف، أما السفلة فمرحى لهم وطول العمر!
والصفاقة كل الصفاقة، أن يقوم الذين أسلموا شبابنا إلى الأيدي الخطأ، أفرادا وأجهزة ودولا، تمويلا وتسليحا وتخطيطا.. بلوم الضحية، واستمراء قتلها والتنكيل بها.
ثم أن جلّ ما نعرفه اليوم عن الإرهاب، إن ضد أو مع، نعرفه عن طريق وسائل الإعلام والانترنت، وهل نستطيع حقا الثقة بوسائل الإعلام والإنترنت؟!
القصة الوحيدة التي تتناول مسألة الإرهاب بشكل مباشر في مجموعتي “أبو العبد” هي “آمين”. صحيح أن القصة ترفض “قدسيّة” كل القتل والدمار الذي يُمارس أو يُسكت عنه وترى في كل ذلك “نجاسة” تستدعي التطهّر منها، ولكنها في المقابل لا تنحاز لميت دون ميت، ولا تدين ميتا لصالح ميت.
أهم ما يستطيع كل منا فعله هو تحرّي الإخلاص، ولكن هل إخلاص النية يشفع لفساد العمل؟ لا أدري، هذا سؤال لا يستطيع الإجابة عليه إلا الله، الله “الذي يعلم تماما ما ينبغي القيام به”.. ولكن مشكلتنا الأساسية أن كل واحد منا يريد أن يلعب دور الله.
كيف ننتصر على أسباب الموت ونتقن فن الحياة وفن الحب؟
لا أظن أنني كشخص وككاتب يمكن أن انفعل وأتفاعل مع مثل هذا السؤال الذي ربما يشرع الباب لإجابة حالمة أو رومانسية تصلح خاتمة لمقابلة صحفية “حلوة”!
لا علم لي بشيء اسمه فن الحياة أو فن الحب، ولا أظنني الشخص المناسب للحديث عنهما إذا كانا موجودين!
ما أعرفه أن ما تحتاجه الحياة هو أن نحياها، وما يحتاجه الحب هو أن نحب. هذه هي الحكمة التي تعلمتها من (زولاق)، زولاق الاسم الأدبي الذي اتخذته لنفسي، وهو اسم البطل أو الشخصية الرئيسية في رواية “البذرة الأخيرة” أو “آخر المهجّرين” لكاتبها “باغرات شينكوبا”.
الحياة ليست شيئا جيدا أو سيئا بالضرورة، الحياة شيء لا بدّ منه.
والحياة لدينا فعل مؤجّل؛ رهين بماض لا ينقضي، أو مرجأ لمستقبل لا يأتي.
هل يعني هذا أن يتخلص الإنسان من عبء تجربته التاريخية والاجتماعية ويعيش في اللحظة؟ الإجابة قطعا لا، هذه وعود ما بعد الحداثة بتفكيكيتها وسيولتها، ووعود الثورة الرابعة بإعلانها موت الإنسان!
المقصود هنا ببساطة أن التاريخ موجود لكي يمنحنا العبرة، والمستقبل موجود ليمنحنا الدافع، لا لأن نحيا فيهما نكوصا إلى الوراء أو انتظارا لغيب.
هي الثنائيات، مشكلتنا الثنائيات: حياة أو موت، حب أو كره، أنا أو آخر، أصالة أو معاصرة، بدائي أو متقدّم، مؤمن أو كافر، حلال أو حرام، أبيض أو أسود، طخّوا أو أكسر مخّوا!
ما نحتاجه هو أن نتخلص من الثنائيات، وأن نتخلى عن هذه الـ “أو”.
بعبارة أدق، ما نحتاجه أن نتخلص من “الديالكتيك” ومن “الداروينية الاجتماعية” باعتبارهما القانونان الماديان الأساسيان الذين يحكمان تجربة الإنسان عبر الزمان والمكان في عالم مات فيه الإله!!
هذه هي رؤية الغربي لله والكون والإنسان عبر نهضته وتنويره وحداثته وما بعد حداثته وثورتيه الرابعة والخامسة، ولكن من قال أن هذه هي الرؤية الوحيدة الممكنة؟
الإرهاب هو الدين وقد تمت إعادته تعريفه وفق النموذج المادي الرأسمالي الغربي..
العنف هو المجتمع وقد أعيد تعريفه وفق النموذج المادي الرأسمالي الغربي..
الفساد هو السلطة وقد أعيد تعريفها وفق النموذج الرأسمالي الغربي..
العنف هو المجتمع وقد أعيد تعريفه وفق النموذج المادي الرأسمالي الغربي..
الفساد هو السلطة وقد أعيد تعريفها وفق النموذج الرأسمالي الغربي..
هذا الثالثوث هو صناعة غربية رأسمالية مائة بالمائة، وما نحتاجه هو أن نتوقف عن رؤية أنفسنا بمرآة الآخر، والأهم، أن نتوقف عن إعادة تعريف أنفسنا وفق شرط الآخر.
لنا تجربتنا التاريخية والاجتماعية، ولنا رؤيتنا الخاصة لله والكون والإنسان، وهناك محاولات فذة على أيدي أشخاص مثل “جمال حمدان” و”علي عزت بيجوفيتش” و”عبد الوهاب المسيري” و”عبد العزيز حمودة” لإرساء مشروع علمي وفلسفي ومعرفي ونقدي انطلاقا من رؤيتنا وتجربتنا وتراثنا.. ولكن المدهش الإهمال الشديد والعداء الأشد والغيظ الأشد والأشد الذي يبديه مفكرونا ونقادنا وأكاديميونا تجاه هذه الأسماء!
ما يزال “الفرنجي برنجي” لدينا حتى بينما هذا “البرنجي” يقتلنا بالمعنى المجازي والحرفي للكلمة!
أما محاولة “البَندَقة”، ومحاولة توليف رؤيتين لا يمكن أن تأتلفا، ومحاولة تهجين نموذجين لا يمكن أن يُهجّنا.. فلا يمكن أن تتمخض إلا عن مسخ أو “زومبي”، كيان هلامي غير متعيّن يجمع سلبيات كلا النموذجين، ولا يحوز أيّا من مزاياهما أو ايجابياتهما المفترضة.
ما نحتاجه ببساطة هو أن نكون نحن، لا أن نكون تقليدا رديئا ورخيصا ويائسا للآخر، ولعل هذا ما أحاول أن أفعله وأن أكونه في قصصي!