-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

"الحقيقة تخرجُ من فمِ الحصان":حكاية من المغرب الشعبي - نجيب مبارك

لم يكن مفاجئاً وصول رواية "الحقيقةُ تخرجُ من فَمِ الحصان" للكاتبة المغربية مريم العلوي إلى اللائحة الطويلة لجائزة غونكور المرموقة لهذا العام، رغم أنّها روايتها
الأولى. فهي رواية موفّقة إلى حدّ بعيد، لأنها اختارت بجرأة الغوص في واحدة من حكايات المغرب الشعبي، بحبكة بسيطة ولغة "مدرَّجة" صادقة وسلسة. وبذلك  فهي تعلن بالتأكيد عن بروز جيلٍ جديد من الكاتبات المغربيات الفرنكفونيات على الساحة الأدبية الفرنسية، تكرَّس بقوّة مع فوز مواطنتها ليلى سليماني بغونكور قبل عامين. واللّافت أن جميع هؤلاء الكاتبات وُلدن وكبُرن وتعلّمن بالمغرب وليس بفرنسا، قبل أن يحلِّقن نحو آفاق جديدة.
حكاية من الواقع المغربي
محرّكُ خيوط حبكة هذه الرواية ومفتاحها الأوّل هو البطلة "جميعة"، وهي شابة في الرابعة الثلاثين من العمر، تعيش وتشتغل بائعةَ هوى في مدينة الدار البيضاء، وتسهر لوحدها على رعاية ابنتها الصغيرة "سامية"، في غرفة صغيرة ومتواضعة جداً وسط المدينة. هي حكاية واقعية عن مصير فتاة جاءت من مدينة صغيرة هامشية، غير بعيدة عن الدار البيضاء (برشيد)، حيث تعيش أمّها التي تجهل كلّ شيء عن طبيعة وتفاصيل الحياة اليومية لابنتها هناك.
بعد تجربة زواج فاشلة، لأن زوجها العاطل عن العمل تركها وهاجر إلى إسبانيا قبل أن يطلقها ليتزوج هناك امرأة أخرى، تغرق "جميعة" تدريجياً في عالم البغاء "الشعبي" الرخيص، بإيعاز وتحريض من بعض صديقاتها. لكن لقاءها مع سيدة لقّبتها الراوية ب"فم الحصان" على سبيل السخرية، وهي مخرجة سينمائية مغربية مقيمة في هولندا، ترغب في تصوير فيلم عن حياة بائعات الهوى في ذلك الحي، سيقلب حياة البطلة رأساً على عقب، عندما ينجح الفيلم فعلاً ويعرض في الولايات المتحدة، وتُرشّح بطلته للتمثيل في أحد المسلسلات المكسيكية. القصة كلّها مختلقَة من الخيال، لكن الكثير من الوقائع والأحداث تبدو مستوحاة من قصص واقعية ما يزال أبطالها يعيشون في الدار البيضاء، حسب ما صرّحت مريم العلوي في حوار لها.
المفتاح الثاني: الدار البيضاء
لا يمكن اختزال ثيمة هذه الرواية في الدعارة فقط، رغم استنادها بشكلٍ أساسي على واقع هذه الظاهرة، إلّا أنّها رواية يلعب فيها الخيال دوراً محورياً، يظهر من خلال بنائها السردي المُحكَم. وهي ليست هجاءاً خالصاً أو جلداً للذات بشكل استعراضي، ولا تبحث بشكلٍ فاضحٍ ومقصود عن إثارة فضول القارئ الغربيّ المهووس دائماً بحكايات الحريم الخيالية. هي فقط تصويرٌ بسيط ودقيق لما حدث وما زال يحدث في حيّ من أحياء وسَط الدار البيضاء، هذه المدينة "الميتروبولية" العملاقة، وهو حيٌّ معروف بحاناته ومحلّاته التجارية، وحرّاسه النهاريين والليليين، وروّاد مقاهيه الجاثمين على الكراسي طوال النّهار يحلّون الكلمات المتقاطعة، وهم يقرؤون الجريدة نفسها آلاف المرات ويشاهدون مباريات كرة قدم لا تنتهي إلا لتبدأ، وفيه أيضاً تنتعش تجارة بائعات الهوى، وهذا أمرٌ واقع صار الجميع يتعايش معه منذ سنين طويلة.
بعد شخصية "جميعة"، هذا هو المفتاح الثاني للرواية، أي مدينة الدار البيضاء نفسها، من خلال التركيز على حيّ من أحيائها الكثيرة. هذه المدينة التي نشأت وترعرعت فيها الكاتبة، والتي تعرف ككلّ المدن/المراكز الاقتصادية العالمية كثيراً من المشاكل والتناقضات الصارخة، وتتفاعل بداخلها العديد من الطاقات والآمال والخيبات من كلّ نوع. تجد فيها البذخ والغنى الفاحش جنباً إلى جنب مع الفقر والمرض، وتجد الحرية والحداثة مطوّقة بأسوار التقليد والتديّن، وبين هذين العالمين ما لا يعدّ ويحصى من الحكايات والأحلام والانكسارات، وما لا يمكن تخيُّله من الطموحات والصراعات التي قد تصل إلى الموت أو الجنون أحياناً.
 لهذا، فإنّ العنف الملموس في الرواية ليس سوى جزءٍ بسيط من عنف المدينة الّتي يصفها بعض سكّانها وزوّارها ب"الغُول"، ولمحة صغيرة عن البؤس الهائل الّذي يعشّش فيها ليلَ نهار. فهنا يُتاح للقارئ الاطّلاع على واحدة من حكايات هذه المدينة العملاقة، لأنّ بطلتها لن تبخل عليه بتفاصيل صادقة وملوّنة بألوانٍ طبيعية من صميم الحياة. فهي إذ تنتقل بعفوية وبساطة من الحزن إلى الضحك، ومن الكوميديا إلى التراجيديا، ومن الواقع الحارق )الدعارة، المخدرات، التهريب، الأصولية، الهجرة... (إلى الخيال البعيد، تكون بصدد نسج واحدة من تلك الحكايات الخرافية ذات النهاية السعيدة، الأشبه بنهاية الروايات المسلسلة (تيلي نوفيلا).
مذكرات تنبض بالحياة
يتّخذ السرد في هذه الرواية شكلَ محادثة شِفاهية بين شخصين، رغم أنّها ظاهرياً تتّكئ على أسلوب المذكرات، حيث تتوجّه البطلة "جمعية" إلى قارئ مفترض أو شخص مجهول غير محدّد في النص ولا نعرف عنه شيئاً، وهو ما منح النص سيولة محبّبة، وإيقاعاً مشوقاً يستسلم له القارئ بسهولة ويُسر، بعد صفحات قليلة من البداية. لكن أهمّ ما يثير الانتباه في هذه الرواية هو السرد ذاته، من خلال تقمُّص شخصية "جميعة" إلى درجة لا يمكن فصل الكاتبة عن الراوية، وهذا بالضبط ما كانت تبحث عنه المخرجة "فمُ الحصان"، أي ذلك الجانب التّلقائي والطبيعي و"البلدي" الأصيل في شخصية "جميعة". ولهذا السبب، طلبت منها الحديث عن حياتها اليومية بالتفصيل المملّ، بما فيها من مواقف حقيقية ومعيشية، حتى يكون للفيلم وقع وتأثير على المشاهد.
من جهة أخرى، نلمس عند الكاتبة بوضوح ذلك الجانب المرح والساخر الذي يظهر على امتداد صفحات الرواية. فهي اختارت معالجة ظاهرة الدعارة من زاوية قريبة جدّاً من دون الوقوع في السوداوية والمأساوية، ألقت عليها ضوءاً خفيفاً وخافتاً مع سخرية لاذعة، موزونة ومتحكّم فيها بشكل مقبول. فالشخصية الرئيسية "جميعة" لا تعتبر نفسها ضحية، بأيّ شكل من الأشكال وفي أيّ لحظة من لحظات حياتها، كما قد يظنّ القارئ من أوّل وهلة، وإنّما هي امرأة قويّة وذات شخصية ناضجة، تعرف كيف تدبّر أمورها، ورغم قسوة الظروف فهي تتصرّف دائماً بذكاء ورباطة جأش، ولا تتباكى أو تشفق على حياتها القاسية ومصيرها البائس، بمعنى أنها تتقبّل عن وعي شروط حاضرها وتتحمّل ماضيها من دون شكوى. والنظرة الّتي تلقيها على الحياة والآخرين هي نظرة فتاة بروح مرِحة في العمق، تمتلك حسّ الدعابة والمفارقة، متوهّجة ونابضة بالحياة. لكن، في المقابل، يبدو جهلها الساذج بعالم السينما غريباً بعض الشيء، يصل إلى حدّ الكاريكاتير، وهو ما قد يفاجئ القارئ أحياناً.
"تدريج" الفرنسية / فرنَسة "الدارجة"
ما يلفتُ النظر أكثر في هذه الرواية هو لغتها الفرنسية المفارقة لما عهدناه لدى الكتاب الفرنكفونيين المغاربة. فهي مزيج من الفرنسية المحكية في المغرب مع الدارجة المغربية في تعابيرها الشعبية الأكثر أصالة وبلاغة، طافحة بالحيوية والصّور المبتكرة والمشاكسة، في ما يمكن أن نسمّيه "تدريج الفرنسية" أو "فَرنَسة الدارجة"، وهي طبعاً فرنسية سليمة لغوياً ومركّبة من تعابير جديدة على الفرنسيين، لكنها تعرف كيف تصف بدقّة مُحزِنة وبشكلٍ ساخر كلَّ ما تقع عليه عين الكاتبة: قساوة الحياة، الفقر، الحياة الشعبية اليومية، المغرب العميق، النفاق، العنف، تجاوزات رجال الأمن، بؤس تجار الدين، الفساد وغيره، مثلما تبرع في رسم لحظات المتعة والفرح والصداقة والمحبة والتضامن. وليس مفاجئاً أن نكتشف مثل هذه اللغة "الهجينة"، فهي لغة المحادثة اليومية لفئة من الشباب المغاربة، خصوصاً الّذين تلقوا تعليمهم في البعثات الفرنسية، وقد تشكّلت شيئاً فشيئاً على مدى عقود، وانصهرت بداخلها الروح المغربية الشعبية العميقة التي تعبّر عنها الدارجة أكثر من أيّ لغة أخرى، لأنها لصيقة بالحياة اليومية أكثر من غيرها، وربما كان اختيار الكاتبة لهذا الأسلوب في التعبير موفّقاً ومنسجماً تماماً مع شخصية البطلة وانتمائها الطبقي وواقعها المعيشي.

صورة مغرب شعبي "مديني"

من خلال هذا الرواية الأولى اللّاذعة والمصقولة بشكل جيّد، لا ترسم مريم العلوي فقط صورة قاتمة للدعارة المحلية في بساطتها المبتذلة، بل أيضاً صورة لجانب من المغرب الشعبيّ في الوقت الحاضر، هو المغرب الحضري أو "المديني"، والذي يقوّضه السياسيون والمجرمون وتجار المخدرات والوسطاء والمفسدون. صورة مجتمع ما زال فقيراً حتى اليوم، حيث يبتعد الناس كلّياً عن الحاضر، وعن كلّ ما يجري من أحداث سياسية دولية أو وطنية، لأنّهم ببساطة لا يتابعونها على شاشات التلفزة، لانشغالهم الدائم بمحاولة العيش يوماً بيوم وصراعهم الأبدي من أجل هدف وحيد: البقاء على قيد الحياة. مجتمع ما زال تقليدياً على الرغم من دخوله عصر الإنترنت، بحيث يصعب على هؤلاء البؤساء" الجدد فرز الحقيقي من الافتراضي في هذه اللعبة العنيفة التي نسمّيها "الحياة"، فييهربون مرغمين إلى الإدمان بشتى أنواعه: الكحول والمخدرات والجنس وكرة القدم والمسلسلات التلفزيونية...إلخ 

لكن، مع ذلك، لم تغفل مريم العلوي الإشارة إلى الثورات العربية وصعود الإسلاميين بشكلٍ خفيّ، من دون أن تصرّح أو تلمّح إلى أنّ الأمر قد يشكّل خلفية سردية أو إطاراً تاريخياً للرواية، التي يبدأ سردها في يوم من أيام 2010، أي قبل عام واحد من اشتعال وامتداد انتفاضات وثورات الربيع العربي، بينما تنتهي أحداثها في الحاضر تلك النهاية السعيدة غير المتوقّعة من طرف القارئ، وربّما هذه النهاية هي نقطة الضعف الوحيدة البارزة في الرواية.

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا