-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

ما كنت أراه من النافذة - فضيلة الوزاني التهامي

النافذة ذات الشباك الأزرق لم تكن تطل على الجبل غربا، ولا على البحر المقابل لها في الشمال، ذلك أن الدفة الخشبية كانت مغلقة طوال الوقت، ولم يكن النور ينفذ منها مطلقا،
فأقصى ما يمكن رؤيته هو ذاك الفراغ الأسود المنتهي قسرا بالشباك الأزرق.
كانت صغيرة لكن ما وراءها كان مخيفا، إلى درجة أنها تستطيع أن تتحول إلى أشباح وتخترق الشباك والدفة، وفراغا بينهما، حتى أنها أحيانا تخترق الغطاء الذي أحكمه على رأسي، وتتسرب من الجفون المغمضة إلى حدقة العين، فتمثل أمامي كاملة الخطوط والملامح.
نباتات الصبار الشائكة وأشجار العرعر، وما بداخلها من كائنات؛ الخنازير البرية ذات الوبر الأسود التي تنكس رؤوسها باتجاه الأرض، ثم تندفع إلى الأمام مشهرة قرنها الحاد فتدمر حقول الفاصولياء والطماطم والباذنجان. كنت أرى حبوب الطماطم خضراء لكن مبعثرة وقد غادرت أعراشها، مثل خديج أجبرته ضربة غادرة على مغادرة رحم أمه، وكان ذلك يخيفني، فماذا لو تلقيت ما يجبرني على مغادرة حضن أمي مثلها.
– لا تقتربوا من النافذة، تلك الأفعى خلفها، وتود لو تخترق الجدران وتنفثنا بسمها، ألا تسمعون فحيحها؟
كنت أصيخ السمع وأقول: «بلى، أسمعه»، لم يكن فحيحا خافتا، بل أصواتا عالية تخترق الأسماع في الليل، لعل الأفعى تقف وهي تصرخ على ذيلها بعلو يساوي طولها، لعلها تصرخ بشكل خاص أمام الشباك الأزرق.
– أكره النوافذ تضيف أمي بصوت خافت.
– وتلك النافذة التي في الجبل؟
تصمت وتحدق في الشباك الأزرق وتسهو، وتطرف رموش عينيها قليلا، ثم سرعان ما تنتابها سكينة، فتدمع عيناها وهي لا تزال معلقة بالنافذة:
– جبل الحبيب؟ لو أنني أستطيع زيارته مرة أخرى.
لم يكن جبل الحبيب بعيدا، لكن الوصول إلى تلك النافذة كان أمرا عسيرا، هناك حيث يتزاحم الناس للوصول إلى الشباك، ومن دخل الزحام لا يمكنه الخروج إلا بمشقة، وربما سقط وداسته الأرجل؛ ومن وصل عليه أن يمر من هناك إلى حيث تقف الصخور ناتئة، من دخلها وخرج آمنا، فقد نال الرضا، ومن ضاقت عليه الصخور فهو ملعون، يرجمه العوام المتزاحمون حولها بوابل من السباب. النافذة ذات الشباك في جبل الحبيب ظلت عصية على أمي، فلم تصلها أبدا، والنافذة ذات الشباك الأزرق ظلت عصية علينا فلم نفتحها أبدا. أمي تشير إلى الشباك وتضرب على صدرها بحرقة، تغدو هذه النافذة هي تلك النافذة، ويغدو ذاك الخواء المظلم وراءه هو ذاك الخواء الضيق بين الصخور:
ـ إذا كان الذهاب إلى الجبل يريحك فافعلي، يقول أبي غاضبا.
ـ سأستريح عندما تحل عنك تلك الأفعى، ترد أمي بغضب أشد
هي لا تمل الحديث عن الأفاعي وهو يغضب لأنه يحب الأفاعي، فيغادر، ولا نراه بعدها إلا بأسابيع:
ـ لو كنتم ذكورا لما تجرأت الأفعى على ابتلاعه.
تحول غضبها إلينا، فنقرفص عند الحائط، وقد انتفشت شعورنا من الجري في الفناء. تظل غاضبة أياما، ثم سرعان ما تسلو، نعرف ذلك من الحناء التي تخضب بها شعرها في الصباح، وبرمة الماء التي تنتصب على النار، من تورد وجنتيها بعد الحمام، والخطوط الحمراء التي تبقى عالقة عند جذور الخصلات. ثم يرتفع صوتها بالدندنة. نعرف بعدها أن الديك الذي ذبحه لنا صاحب الفرن، وتناوبنا على نتف ريشه بالماء الساخن، ستنتشر رائحته مع البصل والقرفة، نعرف أن هذه الرائحة يعقبها مجيء أبي.
نتحلق حول المائدة ونأكل الديك كاملا، الجناحين والعنق والكبد والقانصة، مع بيضتين مسلوقتين نقتسمها في ما بيننا، أما الباقي فيدخل في طبق مغطى إلى الغرفة الشرقية حيث يجلس أبي فاردا رجلا وواضعا يده فوق الرجل الأخرى، في انتظار أن يقفل الباب عليهم جميعا، أبي وأمي والديك وكل البيضات التي كانت في الخم. آوي إلى فراشي، وأغلق عيني حتى لا أسمع تلك الأصوات التي تحاصرني، صراخ وضحكات وكلام غير مفهوم من الغرفة الشرقية؛ صوت الأفعى من النافذة الغربية، ثم تخمد الأصوات وأخمد بعدها، وقبل أن يتسلل النور بالكامل تكون الأصوات قد ارتفعت من جديد:
ـ تلك الأفعى ستبتلعك في جوفها بالكامل وأنت مغمض العينين مثل الأبله.
ـ لقد صيرتك الغيرة عمياء تماما. يجيبها بصوت أعلى.
يجر أبي بلغته فوق أرض الفناء في خطوات سريعة ويرمي الجلباب على كتفه، ويفتح باب الدار ثم يصفقه وراءه، يحدث الباب رجة في الجدران ويتأرجح معلقا فوق الرتاج الخشبي. يرتفع صراخ أمي:
ـ الغداَّر ذهب إليها.
لا أريد أن أرى الأفعى وهي تبتلع أبي كاملا وهو مغمض العينين كالأبله. يصلني صوت انزلاقه في جوفها، أسمع بكاء أمي، وأسمع بكائي.
غادر أبي ولم يعد بعدها، بكت أمي ولم تسكت بعدها، مات أبي فبكيناه، سكتت أمي فسكتنا، سكتت الأصوات التي في رأسي، وسكتت معها تلك الأفعى ذات الصوت الذي لا يشبه الفحيح، لعلها نامت بين أشجار العرعر والصبار.
فتُحِ النافذة، وراء الشباك الأزرق فناء بيت ناصع البياض مثل فنائنا، بغرفتين، شرقية مشرعة النوافذ، وغربية بشباك أزرق مغلق، بالقرب من تلك النافذة تجلس امرأة تلبس البياض مثل أمي، وتبكي بحرقة، تتعلق عيناها بنافذتنا التي كانت مغلقة، ثم تسهو قائلة:
ـ ظلت تلك الأفعى تنفث سمها حتى قتلته…



٭ كاتبة من المغرب

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا