اشتدّ كرْبُه وهو يتأمّلُ المَدينة ِمنْ فوق شُرْفتِه
العالية؛ يبْحَثُ بِعيْنيْه الواسعتيْن عنْ صدى الأمس.. يطول به التّحْدِيق، ينظر
إلى البنايات الشامخة وقد لبسها شحوب الموتى،
يمتد بصره إلى المقهى العتيق الكائن
بالباحة الغربية من المدينة؛ حيث تعوّد الجلوس مع رفاقه؛ يتبادلون وجهات النظر في
قضايا متباينة، يكون النصيب الأكبر منها متعلّقاً بالإبداعات الأدبية؛ حيث يحلو
الحديث وتسكن النفوس وتركن الأفئدة إلى المتعة الكبيرة وهي تتذوق رحيق النصوص،
وتقطف الكلمة المتألّقة من رياض التعبير البليغ حين يكرع من ينابيع الجَمال دلالاتِه؛
ويطير بمُنْشِئه ومُتذوِّقه على حدٍّ سواء؛ إلى بهجة الخيال وطرْفةِ الِابْتكار
للمعنى الفريد.. يُحِسُّ توْقاً عميقاً إلى تلك الأيام...يخرج سيجارة من أحد جيوبه؛ يتفقّدُ ولاّعته؛ لا
يجدها، يعيد السيجارة إلى مكانها، ويتلهّى بتوزيع نظراته على بقية أجزاء المدينة
من هذا المكان العالي في بيته؛ ليستقر بصره في النهاية على بناية بعيدة، شهدتْ
مراحل شبابه وتكوينه ومتاعب دراسته ومواقف حماسه ونشوء قناعاته الفكرية وتبلوُر
مبادئه تجاه الحرية والعدالة والسلام...البناية هي دار الثقافة التي كان يتردّد
عليها بإدمان شديد؛ يعكف على قراءة منوعات في الأدب والفلسفة والتاريخ والتصوف،
حتى أصبح معروفاً من لدن موظفي الدار، بل كثيراً ما كانوا يطلبون مساعدته في ترتيب
الكتب الجديدة حسب الرفوف المخصّصَة لها... كم كان يستمتع وهو يقلّب تلك الكتب بين
يديه، وكأنه يُصافح مؤلّفيها..! وربّما تصفّح بعض الصفحات؛ يقرأ أسطراً قبل أن يضعها في
مكانها المناسب، وبذلك يصبح له علم بالعناوين التي دخلت الدار، وقد يستعير بعضها
للقراءة وربما الاشتغال عليها في أبحاثه الجامعية.. يهزّ رأسه وعيْناهُ لا تُغادِرَان
البِناية... يجمع شتات ذاكرته...يبتسم وهو يتذكّر مسرحية "مأساة
الحلاج"، مَثّلها بمعية بعض رفاقه، بعد أن تنافسوا على الأدوار، واستقام له
تأدية دور البطل... هنّأه الأساتذة وأكرمته إدارة الكلية، فهو صاحب الاقتراح... وهو
الساعي دائماً إلى خلق
النشاطات الثقافية على طول المواسم الدراسية. شيئاً فشيئاً، تنكمش الابتسامة وهو
يسمع صوت سيارة الإسعاف يشقُّ فراغ المدينة، ينظر يميناً وشمالاً... "يا
إلهي ! لعلها ضحية أخرى من
ضحايا الوباء" يسارع إلى هاتفه الجوال، يتصل بأرقام عديدة، يسأل، يتساءل،
يجيبه البعض ولا يجيبه البعض الآخر... يعيد الهاتف الصغير إلى جيبه؛ ويغادر الشرفة
للبحث عن ولاّعته...
مدينة النحيب...
أبواب المقهى اليوم؛ مُوصَدَة، ألغى الزّمَن حرَكتها
وأبادَ صَخبها، وهي التي كانت تعجّ بشتى العقليات... كانت َموْطِناً للفكاهة،
للتعليقات، لِاقْتِنَاص الأخبار بالنسبة لهُوَاة جمع الأخبار... كانت ملاذاً لشباب
المدينة البطّال... يحتسون شايها ويُمارِسون لعِبَ الورَق في انتظار فجر جديد،
تتغيرُ معهُ أحْوالُهم... حتى إذا ما انتصف الليل؛ غادرالجميع ماعدا النادل وصاحب
المقهى، يتأخّران من أجل تفقّد اللوازم ومراجعة الحساب...حتى الدراويش الذين كانوا
يطوفون بالمقهى أصبحوا في خبر كان...! المقهى ميِّت... المدينة تبكي بهجتها الضائعة، تخنقها
غصة الصّمْت الرّهيب وغرابة الزمن الجديد، حين تكفّل بصناعة المشهد في أروقة
المستشفيات، وعلى أسِرّةِ العزْل، وتحت رحمة أجهزة العلاج وهي تنخر الأجساد...
المدينة اليوم، تفْقدُ أصواتَ الباعةِ
المتجوّلين، تفقد طقوس المرح وضجيج الصِّبْية والصّبِيات، المدينة اليوم؛ ثكلى
تنوح... وعُمْرٌ يروح... وأحلامٌ موْؤودة... أين بيوت الله وأين المَرَاكب
والفنادق والمسارح؟ أين دُور العِلم وأجواء التنافس؟ أين الأنْدية والمُنْتزَهات
وأصوات القطارات وزحْمة الأنامِ على الشواطئ والمسابح ودُور الترفيه؟ غاب كل شيء،
فغابَ وجْهُ المدينة، ولم يبق منها سوى تجاعيد مرصّعة على أضواء الليل البهيم...
أما هو، فلن يعود إلى الشرفة... دخل غرفة
مكتبه، أخرَجَ أوْرَاقه، تفقّدَ أقلامه، اختار واحداً له ذكرى عزيزة على نفسه،
فكّرَ بُرْهة، اعتدل في كرْسيه، ثم انْحنى على بياضِ الورق؛ يرسم بالكلمات؛ معالم
مدينته وقد استعْبَدها الوَباء... يعِدُها بالحُرية مِنْ جديد... يتغنّى بِعِتْقِها،
يسمع طرْقاً خفيفاً على باب غرفة مكتبه؛ ينتبه إلى الوقت.. إلى نفسه... إلى
الأوراق المكدّسة على مكتبه... كيف استطاع أن يكتب كل هذا...؟! يسْتجيبُ للطارِق،
إنّها زوْجته، ترنو إليه بحنانِها المعْهود وتدعوه للرّاحة، للرّأفة بنفْسه..
وتُبشِّرُه بأخبار القنوات: " إن الوباء هُزِم.. وإن المدينة بدأتْ تستعيدُ مَلاِمحَها..."