داومت الجزائر، طيلة ما يقرب من ثلاثة عقود، على استهلاك الثقافة السوفييتية، فمنذ استقلال البلد (1962) إلى غاية سقوط الاتحاد السوفييتي (1991)، تراكمت أعمال
كتاب روس في المكتبات العامة، إضافة إلى أعمال كتاب آخرين من جمهوريات شرقية، يجمعهم دفاعهم عن الاشتراكية، وتمجيدهم لشخصيات سياسية مثل لينين أو ستالين، مع منع وصول أعمال الكتاب المنشقين.
نشطت العلاقات السياسية والاقتصادية بين الجزائر وموسكو، ثم تهاطل طلاب جزائريون على جامعات روسية، اختارت حكومة الدولة الفتية ـ آنذاك ـ الاشتراكية ووضعت يدها في يد السوفييت، ثم نسبت هذا الخيار للشعب، حيث كتب محمد الشريف مساعدية، الرجل القوي في جبهة التحرير الوطني في الثمانينيات، في افتتاحية مجلة حكومية: «إن الشعب الجزائري اختار الاشتراكية طواعية للقضاء على رواسب الاستعمار الاستيطاني، ومن أجل التصدي لجميع أشكال الاستعمار الجديد والإمبريالية». هذا الكلام الذي يطفح بالتناقض يختصر جزءًا كبيراً من علاقة الجزائر بالسوفييت، فقد تربى جيل ما بعد الاستقلال على مباركة الاشتراكية (هذا النهج الذي لم يتحقق أبداً في الواقع) ونسب كل كارثة تحل بالبلد للمؤامرة الإمبريالية، وعاد الطلبة المبتعثون من موسكو، ومنهم من تقلد مسؤوليات، ثم وقعت البلاد في فخ «الثقافة السوفييتية»، التي لم ننج منها لحد الساعة، فكثير من الممارسات الثقافية التي نراها كل يوم ليست سوى نتاج للتنشئة السوفييتية التي أثرت ولا تزال على مخيلة النخب الجزائرية.
«شيطنة الغرب» التي تتفاقم في الخطابين الرسمي وغير الرسمي، ليست سوى عينة من تراكمات الثقافة السوفييتية في الذهنية الجزائرية، وهو خطاب تبنته النخب أيضاً، فعلى خلفية شريط وثائقي عرضته القناة الفرنسية الخامسة، قبل أيام، يتناول الحراك الشعبي من وجهة نظر ذاتية، وبدل الرد على القناة، أو على صاحب الشريط، تحول النقاش إلى شيطنة بلد أوروبي، وتوسع الأمر إلى ذم الغرب بأكمله، فالجزائري الذي رضع من ثدي الاشتراكية حتى الثمالة، أو الذي ورث رضاعتها من جيل سابق له، يُراوده إحساس بأن الغرب يستهدفه وينوي النيل منه، لقد تخمر في ذهنه أنه مواطن مكافح ومناضل ضد الإمبريالية، كما علمته الكتب المدرسية، ويعلل كل الأزمات التي يمرّ بها أو يمرّ بها البلد بما يُطلق عليه «الضغينة الغربية»، وينضاف إلى عداء الغرب معاداة السامية، فعلى خلاف كل الديانات، لا يشعر الجزائري ولا النخب الجزائرية، بأي عداء تجاه الديانات كلها، عدا اليهودية، حيث بات من المعتاد أن نُصادف كتباً أو أعمالاً إبداعية تسخر من اليهود بشكل غير مبرر أو تجرمهم، فكيف تحولت الجزائر التي عاشت طويلاً في تعدد ديني، إلى حقل خصب لمعاداة السامية؟ إن الأمر لا يتعلق بدفاع عن فلسطين، بل هو تماهٍ مع المخيلة السوفييتية، التي جعلت من معاداة السامية واحدة من ركائزها. رغم أن الاتحاد السوفييتي تفكك وما بقي فيه من نخب راجعت نفسها، ولم تر ضرراً في تصحيح أخطائها، فإن ثقافته تتسع اليوم في الجزائر، وطفا ما يمكن أن نُطلق عليه «أدب المؤامرة».
كتاب روس في المكتبات العامة، إضافة إلى أعمال كتاب آخرين من جمهوريات شرقية، يجمعهم دفاعهم عن الاشتراكية، وتمجيدهم لشخصيات سياسية مثل لينين أو ستالين، مع منع وصول أعمال الكتاب المنشقين.
نشطت العلاقات السياسية والاقتصادية بين الجزائر وموسكو، ثم تهاطل طلاب جزائريون على جامعات روسية، اختارت حكومة الدولة الفتية ـ آنذاك ـ الاشتراكية ووضعت يدها في يد السوفييت، ثم نسبت هذا الخيار للشعب، حيث كتب محمد الشريف مساعدية، الرجل القوي في جبهة التحرير الوطني في الثمانينيات، في افتتاحية مجلة حكومية: «إن الشعب الجزائري اختار الاشتراكية طواعية للقضاء على رواسب الاستعمار الاستيطاني، ومن أجل التصدي لجميع أشكال الاستعمار الجديد والإمبريالية». هذا الكلام الذي يطفح بالتناقض يختصر جزءًا كبيراً من علاقة الجزائر بالسوفييت، فقد تربى جيل ما بعد الاستقلال على مباركة الاشتراكية (هذا النهج الذي لم يتحقق أبداً في الواقع) ونسب كل كارثة تحل بالبلد للمؤامرة الإمبريالية، وعاد الطلبة المبتعثون من موسكو، ومنهم من تقلد مسؤوليات، ثم وقعت البلاد في فخ «الثقافة السوفييتية»، التي لم ننج منها لحد الساعة، فكثير من الممارسات الثقافية التي نراها كل يوم ليست سوى نتاج للتنشئة السوفييتية التي أثرت ولا تزال على مخيلة النخب الجزائرية.
«شيطنة الغرب» التي تتفاقم في الخطابين الرسمي وغير الرسمي، ليست سوى عينة من تراكمات الثقافة السوفييتية في الذهنية الجزائرية، وهو خطاب تبنته النخب أيضاً، فعلى خلفية شريط وثائقي عرضته القناة الفرنسية الخامسة، قبل أيام، يتناول الحراك الشعبي من وجهة نظر ذاتية، وبدل الرد على القناة، أو على صاحب الشريط، تحول النقاش إلى شيطنة بلد أوروبي، وتوسع الأمر إلى ذم الغرب بأكمله، فالجزائري الذي رضع من ثدي الاشتراكية حتى الثمالة، أو الذي ورث رضاعتها من جيل سابق له، يُراوده إحساس بأن الغرب يستهدفه وينوي النيل منه، لقد تخمر في ذهنه أنه مواطن مكافح ومناضل ضد الإمبريالية، كما علمته الكتب المدرسية، ويعلل كل الأزمات التي يمرّ بها أو يمرّ بها البلد بما يُطلق عليه «الضغينة الغربية»، وينضاف إلى عداء الغرب معاداة السامية، فعلى خلاف كل الديانات، لا يشعر الجزائري ولا النخب الجزائرية، بأي عداء تجاه الديانات كلها، عدا اليهودية، حيث بات من المعتاد أن نُصادف كتباً أو أعمالاً إبداعية تسخر من اليهود بشكل غير مبرر أو تجرمهم، فكيف تحولت الجزائر التي عاشت طويلاً في تعدد ديني، إلى حقل خصب لمعاداة السامية؟ إن الأمر لا يتعلق بدفاع عن فلسطين، بل هو تماهٍ مع المخيلة السوفييتية، التي جعلت من معاداة السامية واحدة من ركائزها. رغم أن الاتحاد السوفييتي تفكك وما بقي فيه من نخب راجعت نفسها، ولم تر ضرراً في تصحيح أخطائها، فإن ثقافته تتسع اليوم في الجزائر، وطفا ما يمكن أن نُطلق عليه «أدب المؤامرة».
من الأمراض التي ورثتها النخب الجزائرية عن الأسلاف السوفييت مبايعة «القمع الانتقائي»، فهي نخب لا تتحرك بل تلتزم الصمت إزاء ما يحصل من قمع انتقائي تجاه مبدعين أو فنانين، أو أيضاً ضد الشباب على مواقع السوشيال ميديا، هذه النخب تظن أن ما تقوم به الحكومة من رقابة أو سجن إنما يدخل في صلاحياتها، ولا شأن لهم به، ويشبه هذا ما وقع في تشيكوسلوفاكيا في سنواتها الأخيرة، عندما منعت السلطة أغنية بوب شهيرة، لا لسبب سوى أن كلماتها أوحت لها بأنها تنتقد الحاكم، حيث جاء فيها ما معناه: «إنهم يخافون الشباب بسبب براءتهم/إنهم يخافون أعضاء الحزب/ إنهم يخافون الذين لا ينتمون إلى الحزب/ إنهم يخافون الفن/ إنهم يخافون الأسطوانة والكاسيت المسجل/ إنهم يخافون المسارح والأفلام/ إنهم يخافون الكتاب والشعراء/ إنهم يخافون التدفق الحر للإعلام/ إنهم يخافون الفاكس والتلكس.. فلماذا نخاف منهم نحن؟» واصطفت النخبة المحلية في صف السلطة مؤيدة قرارها. تقوم النخب الجزائرية في الزمن الراهن بإعادة تدوير مسلمات سوفييتية، بدون أن تقر بذلك. كما أن السلطة ذاتها تتبنى نظرة «سوفييتية» للثقافة، مثلاً معدل عمر المخرجين السينمائيين، الذين استفادوا من دعم حكومي في السنوات الأخيرة، يتعدى 55 سنة، مع العلم أن السعفة الذهبية في مهرجان «كان» نالها مخرج جزائري وحيد وكان في أوائل الأربعينات من العمر حينذاك. كما لو أن السلطة لا تثق سوى في الكهول وكبار السن، بينما على الشباب البحث عن دعم لأفلامهم في الخارج، وعندما تكتمل أعمالهم فإنها إما أن تمنع أو توصف بأفلام (متغربة) ولنا في حالة فيلم «بابيشة» نموذجاً.
توظيف الإعلام الرسمي في الجزائر يتشابه مع توظيفه في الاتحاد السوفييتي، فالجرائد الرسمية باتت لا تلعب دوراً في صنع الرأي العام، لا تغامر في التعليق أو في الانتقاد، بل تستنسخ تجربة صحيفة «البرافدا» الروسية، ذلك ما يمكن ملاحظته في محتوى الجرائد الحكومية، أو التلفزيون العمومي، حيث تلعب وسائل إعلام دور الدفاع عن نظام الحكم، تنشط في الرد على المنتقدين وفي تسويق صور المسؤولين، وتجد نخب جزائرية مكاناً أثيراً بين صفحاتها، تستعين ببلاغة غورباتشوفية في الحفاظ على الوضع القائم، فقد ندر أن نعثر على مثقف واحد، درس في موسكو أو عاش فيها، ينتقد السلطة، بل كلهم عادوا إلى الجزائر قصد السير في خطها، يتنافسون فيما بينهم في نزعتهم الاشتراكية المطاطية، وفي دفاعهم الشفهي عن الشريحة العمالية أو المقهورين لكنهم في الأخير لا يركبون سوى قارب السلطة، يبررون كل حركة تغيير أو انتفاضة بأنها «ثورة من فوق»، لأنهم لا يؤمنون بأن تأتي «ثورة من تحت» من جوف الشعب، هذه هي فاتورة الاتكال على النموذج السوفييتي في الجزائر، وعلى ثقافته، فقد أنبت نخباً لامعة في المهادنة، وفي تكرار أخطاء الماضي، يعلو صوتها كلما احتاجت إليها السلطة، ويخفت كلما ورد الحديث عن حق الأقليات في التعبير عن نفسها.
توظيف الإعلام الرسمي في الجزائر يتشابه مع توظيفه في الاتحاد السوفييتي، فالجرائد الرسمية باتت لا تلعب دوراً في صنع الرأي العام، لا تغامر في التعليق أو في الانتقاد، بل تستنسخ تجربة صحيفة «البرافدا» الروسية، ذلك ما يمكن ملاحظته في محتوى الجرائد الحكومية، أو التلفزيون العمومي، حيث تلعب وسائل إعلام دور الدفاع عن نظام الحكم، تنشط في الرد على المنتقدين وفي تسويق صور المسؤولين، وتجد نخب جزائرية مكاناً أثيراً بين صفحاتها، تستعين ببلاغة غورباتشوفية في الحفاظ على الوضع القائم، فقد ندر أن نعثر على مثقف واحد، درس في موسكو أو عاش فيها، ينتقد السلطة، بل كلهم عادوا إلى الجزائر قصد السير في خطها، يتنافسون فيما بينهم في نزعتهم الاشتراكية المطاطية، وفي دفاعهم الشفهي عن الشريحة العمالية أو المقهورين لكنهم في الأخير لا يركبون سوى قارب السلطة، يبررون كل حركة تغيير أو انتفاضة بأنها «ثورة من فوق»، لأنهم لا يؤمنون بأن تأتي «ثورة من تحت» من جوف الشعب، هذه هي فاتورة الاتكال على النموذج السوفييتي في الجزائر، وعلى ثقافته، فقد أنبت نخباً لامعة في المهادنة، وفي تكرار أخطاء الماضي، يعلو صوتها كلما احتاجت إليها السلطة، ويخفت كلما ورد الحديث عن حق الأقليات في التعبير عن نفسها.
٭ كاتب من الجزائر