تمثل الثقافة الشعبية في جانبها الإبداعي الشعري والغنائي، أهم مقومات الرأسمال الرمزي الوطني، الذي تتميز به الأمم والشعوب عن بعضها بعضا. فبه تختلف وبه
تعرف، على خلاف ما تقدمه الثقافة العالمة التي نجدها تتأسس، إلى جانب بعدها الوطني، على عناصر ثقافية تستمدها من تفاعلها مع ثقافات أخرى. لذلك نجد الثقافة الشعبية تصب في مسار إنساني لأنها تعبير عما هو خاص بالبيئة، التي تكونت فيها، والتي تجعلها تجسيدا لما هو متصل بالحياة اليومية في خصوصيتها وحميميتها.
بينما نجد الثقافة العالمة والجماهيرية تتصلان معا بما هو عام ومشترك بين الثقافات ذات المنحى نفسه، لأنهما تشكلتا في نطاق التفاعل بين ثقافتين أو أكثر خلال الصيرورة التاريخية.
إن الثقافة الشعبية هي أساس أي ثقافة عالمة وأصلها، لأنها سابقة عليها. ورغم كون تشكل الثقافة العالمة لا يتحقق إلا بانتقال المجتمع من حقبة في تطوره إلى حقبة أعلى، فإن ما ينجم عن التحول يؤدي إلى بداية بروز ثقافة جديدة تحمل بذور الثقافة القديمة، ولكن سرعان ما تبدأ تختلف وتبتعد عنها. وفي هذا السياق تظل الثقافة الشعبية حاضرة برواسب عراقتها، إلى جانب استفادتها مما تمده بها الثقافة العالمة، ولكن بشكل يجعلها محافظة على مقوماتها وأصالتها، وعندما يتم التفريط بالثقافة الشعبية من قبل أمة من الأمم، تحت أي ذريعة كانت، فليس لذلك من معنى سوى الابتعاد عن الجذور التي تشكلت منها.
افتقدت الساحة الفنية والغنائية الشعبية المغربية خلال الأسبوع الماضي الفنان الشعبي زروال، الذي ظل يشكل مع رفيق دربه قشبل، ظاهرة الثنائي «قشبل وزروال» التي امتدت حوالي ستين عاما. بهذه الوفاة يمكننا إعلان غياب أقدم تجربة فنية وغنائية متميزة ذات الأصول العميقة في التراث الشعبي، في مناطق السهول المغربية (الشاوية ودكالة). ظلت الساحات العمومية المحلية (الحلاقي والأسواق الشعبية والمواسم والأعراس) هي الفضاء، الذي تقدم فيه هذه الإبداعات الغنائية. لكن مع بروز تقنية التسجيل في الأسطوانات، والإذاعة، وبعد ذلك التلفزيون، في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، أصبح بالإمكان التعرف على منجزاتها عبر هذه الوسائط على نطاق واسع يتعدى حدود القبيلة إلى الوطن.
بآلة «لوتار» التي يعزف عليه قشبل، و»البندير» الذي ينقر عليه زروال عرف هذا الثنائي الذي سبق غيره من الثنائيات إلى التسجيل، والبروز على الشاشة المغربية، إبان ظهورها، فكان انتقالهما بذلك من المحلي إلى الوطني، من خلال كسب منزلة خاصة لدى المستمعين والمشاهدين، وبذلك كرسا خصوصية تجربة الثنائيات، التي ظلت مهيمنة في مجال الإبداع الشعبي، وهي مستمرة إلى الآن، وقد اتخذت صورا وأبعادا جديدة مع تطور الوسائط والمنصات العصرية.
لا تختلف ظاهرة هذا الثنائي عما كان يقدمه قرزز ومحراش، وصالح والمكي، واحديدو والحسناوي، وغيرهم في الستينيات والسبعينيات، من خلال الأسطوانات أو الأشرطة أو أمواج الإذاعة الوطنية. وستتواصل التجربة نفسها مع الثنائي الذي فرض نفسه «الهناوات». ارتبط بروز هذه التجربة بالبادية، وبالمجتمع الفلاحي، لكنها تطورت بعد ذلك في المدينة (الدار البيضاء مثلا)، واتخذت صورة أخرى مع تجربة «بزيز وباز»، و»التيقار»، «السفاج ومهيول»، و»الكوبل»، والكثير من التجارب الفكاهية على الصعيد الوطني، إلا أنها لا تزاوج الفكاهة بالغناء.
تتميز ظاهرة قشبل وزروال بالغناء الشعبي في أنواعه السائدة في الشاوية (العيطة، الساكن، القصيدة) مع تضمين ما كان يسمى بـ»التواشي» (من التوشية) والمقصود بها: النكت والنوادر، لإمتاع المتفرجين، خاصة أثناء عرض حبات العيطة، لتلاؤم بعضها مع أجواء الفكاهة. وكانت الموضوعات المتناولة في القصائد من صميم الواقع المعيش ومعاناة الإنسان البسيط: المرأة، الزواج والطلاق، خادمات البيوت، (قصيدة سرقة دراجة)، عيد الأضحى، جولة في المغرب، النجمة، وغيرها، مما جعلها تلقى نجاحا باهرا، وتفرض نفسها تراثا فنيا أصيلا يزاوج بين الطرب والفكاهة، إلى حد تسمية قشبل وزروال بـ»الثنائي المرِح».
إن ريادة هذه التجربة وخصوصيتها، التي جعلتها تفرض نفسها وليدة العوامل التالية: أولا، الحفاظ على تراث شعبي عريق ونقله من الغياب إلى الحضور، ومن المحلي إلى الوطني. وثانيا: استمرار العلاقة بين الرجلين، مدة طويلة من الزمن (حوالي ستين سنة)، على خلاف أغلب التجارب الثنائية التي كانت تنتهي بالخلاف. القدرة على تطوير الأداء الفني الموسيقي وتوليد النكت العفوية ذات الطبيعة الشعبية، ثالثا. وأخيرا، الارتباط بالواقع الشعبي المرير عبر تحويله إلى مادة للضحك الساخر.
تجربة الفكاهة الشعبية مع قشبل وزروال كانت صادقة وعميقة، ولذلك كانت تمس القلوب بعفويتها وحيويتها. ولعل نجاح تجربة حسن الفد ودنيا بوطازوت «في الكوبل»، على سبيل المثال، يكمن في كونها امتدادا وتطويرا للتجربة الثنائية الشعبية بصفة عامة، من خلال الحفاظ على أهم مميزاتها الخاصة. حين تفتقد الفكاهة العصرية هذه السمات الفنية، فهذا دليل على قطع علاقتها بجذورها الشعبية. وفي غياب معاهد ودراسات أكاديمية لهذا النمط من الثقافة الشعبية، أنى للثقافة أن تتطور في مختلف جوانبها، وأن تحافظ على مقوماتها؟ الثقافة الشعبية بدون العالمة عرجاء، والثقافة الجماهيرية بدون الشعبية عوراء.
https://www.alquds.co.uk/
تعرف، على خلاف ما تقدمه الثقافة العالمة التي نجدها تتأسس، إلى جانب بعدها الوطني، على عناصر ثقافية تستمدها من تفاعلها مع ثقافات أخرى. لذلك نجد الثقافة الشعبية تصب في مسار إنساني لأنها تعبير عما هو خاص بالبيئة، التي تكونت فيها، والتي تجعلها تجسيدا لما هو متصل بالحياة اليومية في خصوصيتها وحميميتها.
بينما نجد الثقافة العالمة والجماهيرية تتصلان معا بما هو عام ومشترك بين الثقافات ذات المنحى نفسه، لأنهما تشكلتا في نطاق التفاعل بين ثقافتين أو أكثر خلال الصيرورة التاريخية.
إن الثقافة الشعبية هي أساس أي ثقافة عالمة وأصلها، لأنها سابقة عليها. ورغم كون تشكل الثقافة العالمة لا يتحقق إلا بانتقال المجتمع من حقبة في تطوره إلى حقبة أعلى، فإن ما ينجم عن التحول يؤدي إلى بداية بروز ثقافة جديدة تحمل بذور الثقافة القديمة، ولكن سرعان ما تبدأ تختلف وتبتعد عنها. وفي هذا السياق تظل الثقافة الشعبية حاضرة برواسب عراقتها، إلى جانب استفادتها مما تمده بها الثقافة العالمة، ولكن بشكل يجعلها محافظة على مقوماتها وأصالتها، وعندما يتم التفريط بالثقافة الشعبية من قبل أمة من الأمم، تحت أي ذريعة كانت، فليس لذلك من معنى سوى الابتعاد عن الجذور التي تشكلت منها.
افتقدت الساحة الفنية والغنائية الشعبية المغربية خلال الأسبوع الماضي الفنان الشعبي زروال، الذي ظل يشكل مع رفيق دربه قشبل، ظاهرة الثنائي «قشبل وزروال» التي امتدت حوالي ستين عاما. بهذه الوفاة يمكننا إعلان غياب أقدم تجربة فنية وغنائية متميزة ذات الأصول العميقة في التراث الشعبي، في مناطق السهول المغربية (الشاوية ودكالة). ظلت الساحات العمومية المحلية (الحلاقي والأسواق الشعبية والمواسم والأعراس) هي الفضاء، الذي تقدم فيه هذه الإبداعات الغنائية. لكن مع بروز تقنية التسجيل في الأسطوانات، والإذاعة، وبعد ذلك التلفزيون، في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، أصبح بالإمكان التعرف على منجزاتها عبر هذه الوسائط على نطاق واسع يتعدى حدود القبيلة إلى الوطن.
بآلة «لوتار» التي يعزف عليه قشبل، و»البندير» الذي ينقر عليه زروال عرف هذا الثنائي الذي سبق غيره من الثنائيات إلى التسجيل، والبروز على الشاشة المغربية، إبان ظهورها، فكان انتقالهما بذلك من المحلي إلى الوطني، من خلال كسب منزلة خاصة لدى المستمعين والمشاهدين، وبذلك كرسا خصوصية تجربة الثنائيات، التي ظلت مهيمنة في مجال الإبداع الشعبي، وهي مستمرة إلى الآن، وقد اتخذت صورا وأبعادا جديدة مع تطور الوسائط والمنصات العصرية.
لا تختلف ظاهرة هذا الثنائي عما كان يقدمه قرزز ومحراش، وصالح والمكي، واحديدو والحسناوي، وغيرهم في الستينيات والسبعينيات، من خلال الأسطوانات أو الأشرطة أو أمواج الإذاعة الوطنية. وستتواصل التجربة نفسها مع الثنائي الذي فرض نفسه «الهناوات». ارتبط بروز هذه التجربة بالبادية، وبالمجتمع الفلاحي، لكنها تطورت بعد ذلك في المدينة (الدار البيضاء مثلا)، واتخذت صورة أخرى مع تجربة «بزيز وباز»، و»التيقار»، «السفاج ومهيول»، و»الكوبل»، والكثير من التجارب الفكاهية على الصعيد الوطني، إلا أنها لا تزاوج الفكاهة بالغناء.
تتميز ظاهرة قشبل وزروال بالغناء الشعبي في أنواعه السائدة في الشاوية (العيطة، الساكن، القصيدة) مع تضمين ما كان يسمى بـ»التواشي» (من التوشية) والمقصود بها: النكت والنوادر، لإمتاع المتفرجين، خاصة أثناء عرض حبات العيطة، لتلاؤم بعضها مع أجواء الفكاهة. وكانت الموضوعات المتناولة في القصائد من صميم الواقع المعيش ومعاناة الإنسان البسيط: المرأة، الزواج والطلاق، خادمات البيوت، (قصيدة سرقة دراجة)، عيد الأضحى، جولة في المغرب، النجمة، وغيرها، مما جعلها تلقى نجاحا باهرا، وتفرض نفسها تراثا فنيا أصيلا يزاوج بين الطرب والفكاهة، إلى حد تسمية قشبل وزروال بـ»الثنائي المرِح».
إن ريادة هذه التجربة وخصوصيتها، التي جعلتها تفرض نفسها وليدة العوامل التالية: أولا، الحفاظ على تراث شعبي عريق ونقله من الغياب إلى الحضور، ومن المحلي إلى الوطني. وثانيا: استمرار العلاقة بين الرجلين، مدة طويلة من الزمن (حوالي ستين سنة)، على خلاف أغلب التجارب الثنائية التي كانت تنتهي بالخلاف. القدرة على تطوير الأداء الفني الموسيقي وتوليد النكت العفوية ذات الطبيعة الشعبية، ثالثا. وأخيرا، الارتباط بالواقع الشعبي المرير عبر تحويله إلى مادة للضحك الساخر.
تجربة الفكاهة الشعبية مع قشبل وزروال كانت صادقة وعميقة، ولذلك كانت تمس القلوب بعفويتها وحيويتها. ولعل نجاح تجربة حسن الفد ودنيا بوطازوت «في الكوبل»، على سبيل المثال، يكمن في كونها امتدادا وتطويرا للتجربة الثنائية الشعبية بصفة عامة، من خلال الحفاظ على أهم مميزاتها الخاصة. حين تفتقد الفكاهة العصرية هذه السمات الفنية، فهذا دليل على قطع علاقتها بجذورها الشعبية. وفي غياب معاهد ودراسات أكاديمية لهذا النمط من الثقافة الشعبية، أنى للثقافة أن تتطور في مختلف جوانبها، وأن تحافظ على مقوماتها؟ الثقافة الشعبية بدون العالمة عرجاء، والثقافة الجماهيرية بدون الشعبية عوراء.
https://www.alquds.co.uk/