إذا كان الدادائيون والسورياليّون «تمرّدوا» على الصيغ الشعرية السائدة، فقد عقدوا هذا التمرد ضمن «حركة» أو جماعة، وبيانات تحدد طرق تعبيرهم، وكأنها قوانين... وهكذا فعل الرمزيّون والرومانطيقيّون من قبلهم: مدارس شعرية مقابل أخرى. حساسية مقابل أخرى. أساليب مقابل أخرى. مرجعيات مقابل أخرى.
كان القرن العشرون، شعراً ومسرحاً، ورواية، ورسماً وسينما... حاضناً مثل هذه المدارس.. هذه المناخات أحاطت بالشاعر البلجيكي – الفرنسي هنري ميشو... لكنه، بدوره، تمرّد عليها؛ رفض كل ما يسبق التجربة الشعرية أو الفنية من نظريات. رفض الجماليات الجاهزة، لا سيّما الجماعية، لينفرد حرّاً بما هو خصوصي وفردي وغير متوقع، وضارب في الاحتمالات النصّية: فهو «يقود» شعره بنفسه، بتجاربه المتنوّعة، وبحساسيّاته المفتوحة، بل كأنّه يقول: كل شيء يمكن أن التعامل معه كشعر، ولا يهمّه الشكل المحدد بل الشكل الحر. لا يقود شكلية ثابتة. لا بصمات تشير إلى هويّة نهائية. أي لا أسلوبية. كل الأساليب جاهزة، وكل أنواع الكتابات: «القصيدة غير خاضعة لمفهومية ما كتشكيل بل كصوت سامٍ» للأشكال الأدبية.
تحرّر من الموزون. لكنه جمع النثر والموزون في نصّ واحد. هرب من النوع الواحد، المقنّن، إلى مزج الأنواع، حيث تمحى الحدود بين الأنواع: فعلى امتداد تجربته الخصبة، نجد الحكاية والأمثال، والكلمة الغنائية، والغرائبية، والبحثية، والصحافية، ونتاجاته من الرملان، الى الصين، والهند، واليابان، وأميركا وأفريقيا، فتأثر برسومهم وفلسفتهم، وشعرهم كالهايكو، والحزن، والطاوية.
فورث اختزالية هذه الأشكال، وتقشّفها وتكثيفها؛ من دون كتاباته «البحثية»، والقصصيّة، والسردية، وتجربته مع «المنحدرات ل. س. و. وما أملت عليه من نصوص وعلى غرار بودلير في الفراديس الاصطناعية»...
جمع القصة والقصيدة والنثر الشعري والأوصاف الدقيقة... بمعنى آخر، حاول ميشو أن يتحرك على مساحات كتابية مفتوحة، بلا إملاءات ذهنية، أو نظرية، فكان ظاهرة «غريبة»، من ظواهر الشعر الفرنسي والعالمي؛ مارس الرسم متأثراً بالحروفية، والفراغات اليابانية والصينية، كما، انضم الى مالرمه في جعل الورقة فضاء سينوغرافيا، يلعب على البياض؛ أي علاقة الكلمة بالفراغ، من حيث ترتيبها؛ يذكّرنا بـ»رمية نرد» لمالرمه، و»كاليغرام»، في إطار ما يسمى القصيدة البصرية.
جافى الظهور العمومي سواء على التلفزيون، أو الراديو، أو الصحف، ورفض حتى أن تُؤخذ له صورة لتنشر في جريدة أو كتاب. إنه الكائن «المختفي»، ظلّ، خلف الجدران، وفي الغابات، وفي الأصقاع. أراد أن يتمرد على «استعراضية» السورياليين، وبعض شعراء الصالونات والمناسبات.
أما تاريخ ولادته، فهناك من يقول إنه وُلد عام 1819 وآخرون عام 1820؛ توفي في باريس عام 1984. إنه الشاعر الذي جعل من المجهول النصّي... غابة يخترقها بلا شواهد، ولا قوانين، ولا نظريات نهائية ولا بوصلات.
من أعماله: «الأحلام والساق» (1923)، «من كنت» (1927)، «اكوادوار» (1929)، «بلوم» (1930)، «بربري في آسيا» (1933)، «أبعاد داخلية» (1938)، «في بلاد السحر» (1941)، «مساحة الداخل» (1944)، «ممرات» (1950)، «رياح وغبار» (1962).
نقدّم هنا مختارات من شعره.
رجل هادئ
مادّا يديه خارج السرير، فوجئ بلوم بأنه لم يعد يلتقِي الجدار «غريب، فكّر، لا بد أن النمال أكلته...» ثم عاد إلى النوم.
بعد قليل، أمسكت زوجته به، وهزّته: وقالت: «انظر أيّها الكسول؛ بينما كنت مشغولاً بالنوم، سُرق منزلنا. في الواقع كانت سماء سليمة تمتد من كل جانب. فكّر: آه، لقد تمَّ الأمر».
بعد قليل، سمعت جلبة. ولأن قطاراً يدركهما بكل جموحه. فكّر «بالهواء المضغوط فيه، سيصل بكل تأكيد قبلنا. ثم عاد إلى النوم.
بعدها، أيقظه البرد، مضرّجاً كله بالدم. بعض أشلاء زوجته قربه. فكّر «مع الدم، تطلع دائماً كجثّة من القذارات؛ لو كان لهذا القطار ألا يتمكن من العبور، لكنت سعيداً جدًّا. لكن بما أنه قد مرّ....». ثم عاد إلى النوم.
- فلنرَ، قال القاضي، كيف تفسّر أن زوجتك قد تكون جرحت إلى درجة وجودها مقسّمة إلى ثماني قطع، من دون، وأنت قربها، أن تستطع أن تقوم بأي حركة لمنع ذلك، حتى من دون أن نلاحظ. هذا هو السر. كل القضية تكمن هنا.
- على هذه الطريق، فكّر بلوم، لا أستطيع مساعدتها، ثمَّ عاد إلى النوم.
- تنفيذ الحكم سيكون غداً. هل عندك أيّها المتهم ما تضيفه؟
- عفواً، قال، لم أتابع القضية. ثم عاد إلى النوم.
سحر
– I –
كنت في الماضي جدّ عصبياً. ها أنا على سبيل أخرى:
أضع تفاحة على رأسي. ثمَّ أضع نفسي في هذه التفاحة، أي اطمئنان.
يبدو ذلك بسيطاً: مع هذا، فأنا منذ عشرين عاماً أحاول: لم أنجح، مريداً البدء من هنا. لِمَ لا؟
لكنت ظننت نفسي ربّما مذلاًّ، بالنظر إلى قامته الصغيرة وحياته الصفيقة البطيئة: هذا ممكن.
فأفكار الطبقة السفلى نادراً ما تكون جميلة.
بدأت إذن بشكل آخر وأتحدث با «ألاسكو».
ألاسكو في انثير، حيث وجدتها، واسعة ومهمة وتدفع موجاً كبيراً. الضفة العالية، التي كانت تتقدم كان يأخذها. إنه نهر. نهر حقيقي.
قررت أن أكون واحداً معه. كنت أقف على الرصيف على مدار النهار. لكنّني كنت أتبعثر في مناظر عديدة وبلا جدوى.
ثمَّ، وبالرغم منّي، كنت أنظر إلى النساء من وقت إلى آخر، وهذا ما لا يسمح به النهر، ولا تفاحة تسمح به، ولا شيء في الطبيعة.
إذن «ألاسكو» وألف إحساس. ما العمل؟ فجأة بعدما زهدت بكل شيء، وجدت نفسي.. ولا أقول مكانه، لأنه، وللاعتراف بالحقيقة، لم يكن الأمر كذلك أبداً. يجري بلا انقطاع (وهاك صعوبة بالغة) ويزلق إلى هولندا، حيث يوافي البحر والارتفاع إلى درجة الصفر.
آتي إلى التفاحة. هنا أيضاً، محاولات، تحارب: إنها قصة. الرحيل غير لائق وكذلك تفسيره.
لكن بكلمة، يمكنني أن أقوله لك: «المعاناة هي الكلمة.
– II –
ما إنه رأيتها، رغبت فيها.
أولاً لأُغريها، وزّعت سهولاً وسهولاً.
سهولاً طالعة من نظرتي تتمدّد، ناعمة،
ودّية، مُطمئنة.
أفكار السهول ذهبت إلى لقائها، وبدون
معرفة ذلك، كانت تتنزّه فيها، ووجدت نفسها
مسرورة وراضية.
وطمأنتها جيّداً، ملكتها..
بعد ذلك، إثر بعض الراحة والهدوء، مستعيداً
طبيعتي، أظهرت رماحي،
شعرت ببرد قارس، وأخطأت تماماً
حولي.
ذهبت بهيئة مهزومة ومحفرة، فكأنما
سُرقت.
توقّفت حياته
كنت في عرض المحيط. كنا نجذف: فجأة هبطت الريح.
عندها كشف المحيط عظَمَته، عزلته اللانهائية.
هبطت الريح فجأة، أصدرت حياتي «توك». توقفت إلى الأبد.
كان بعدَ ظهر هاذٍ، كان بعدَ ظهر استثنائي، بعد ظهر «الخطيبة تراجع».
كانت لحظة، لحظة أبدية، مثلما صوت الإنسان وصحّته تخف بلا جهد.
أنا الجراثيم المتضوّرة جوعاً، وكانت لحظة، وكل الثواني الأخرى دفنت فيها الواحدة بعد الأخرى، على قدر ما تصل، بلا نهاية، وتدمّرت داخلها، أكثر فأكثر مختبئاً، بلا نهاية، بلا نهاية.
العودة
كنت أتردّد في العودة إلى بيت أهلي. عندما تمطر،
أقول، ماذا يفعلون؟ ثمَّ تذكّرات أنه كان هناك
سقف في غرفتي. لا مانع» ومرتاباً، لم
أرد العودة.
عبثاً ينادونني الآن. يصفرون في الليل.
لكن عبثاً يعبثون بصمت الليل للوصول إليّ.
عبثاً عبثاً بشكل مطلق.
السفّاح
نظراً لضعف ذراعي، لم أستطع أن أكون أبداً سفّاحاً. أي عنق، ما كنت لأقطعها،
ولا بأي طريقة.
الأبيّ
تاركاً الشرفة حيث تمر مواكب العالم، عندما تجب العودة من دون Arcocles، في الشوق البارد لليوم، أمام مئات العلب التي يجب ملؤها بسرعة، عندما يجب ترك الفراغ الأكبر الرائع حيث كانت العطلة.
** استراحة في البؤس
أيها البؤس، يا صانعي الكبير
أيها البؤس، اجلس
استرح.
فلنسترح أنا وأنت قليلاً
استرح
تجدني، تجرّبني، تظهر لي ذلك
أنا الحطام
يا مسرحي الكبير، يا حزن أماني، يا سيّدي
يا ملاذي، الذهبي
في ضوئك، في اتّساعك، في رعبي
أستسلم.
صبية بودابست
في ضباب أنفاس صبية ساخن
اتّخذت مكاناً
استجبت، لم أغادر مكانها.
ذراعان ما عادتا تزنان شيئاً.
نلتقيهما كالماء.
الذابل يختفي أمامها. لا يبقى
سوى عينيها.
أعشاب طويلة جميلة، أزهار
طويلة جميلة تنمو في حقلنا.
عقبة جد خفيفة على صدري،
كما تستند الآن
ستتذكر بقوّة، الآن إلى
درجة لم تعد موجوداً.
على طريق الموت
على طريق الموت،
التقت أمّي مأدبة كبيرة
أرادت أن تتكلم
كان الأوان فات
مأدبة كبيرة من الشوفان.
نظرت إلينا أنا وأخي
ثم بكت.
قلنا لها – أكاذيب عبثية فعلاً.
إننا كنا نفهم جيداً.
وعندها التمعت هذه بسمة فتاة
صغيرة، ناعمة.
من كانت فعلاً هي؟
بسمة جد جملة بالكاد
ثم أخذت في «الصفيق».
أفكار
تفكر، تعيش، بحر مميز قليلاً؛
أنا – ذلك – أرتجف
لا نهائي يقفز بلا انقطاع.
ظلال عوالم معوّقة
ظلال الظلال
رماد أجنحة
أفكار بسباحة رائعة
تزلق فينا، بيننا، بعيدة منّا،
بعيداً من أن تنوّرنا،
بعيدة من أن تخترقنا؛
غرباء في منازلنا
دائماً
غبار يلهينا ويغرق الحياة
في الليل
في الليل
في الليل
أتحدّث بالليل
بالليل البلا حدود
بالليل
ليلي، جميلي، ليلي
أيّها الليل
يا ليل الولادة
تملأني بصرختي
بسنابلي.
أنت الذي يجتاحني
الذي يهوم يهوم
يهوم حولي
ويدخّن، أنت ثقيل جدًّا
وتزأر
أنت الليل
الليل الذي يرقد ليل
وضوضاؤه، وشاطئه
شاطئه فوق، شاطئه في كل مكان
شاطئه يشرب، وزنه ملك، وقد
يشي يلوي تحته
تحت، أقل إمساكاً من خيط تحت الليل.
كحجر في البئر
أبحث عن كائن أجتاحه
جبل المسيل، علبة إلهية
أين أنت يا قطبي الآخر؟ هدايا
مؤجلة دائماً؟
أين أنت المد الصاعد؟
كاتباً فيك الحمام الكاسر لضغطي غير المتسامح!
أقر حبك.
حضور الذات: أداة مجنونة.
يثقل على الذات
على العزلة
على الجدار
على الفراغ.
بورتريه A.
كان يسأل أين حياته، تبدو له أحياناً في الأمام نادراً ماضية أو حالية، على الأرجح تعمل.
يوجّهها، يجرّبها، لا يراها.
مع هذا، فهي حياته.
أكثر شفافية منها إلى الفراغ، أكثر سهماً منها إلى الشفافية، وأكثر أيضاً مناخيًّا.
***
يبحث عن الشباب بقدر ما يهرم. كان يأمل فيه.
ما زال ينتظره. لكنه سيموت قريباً.
***
الآخرون مخطئون. هذا جدّ مؤكّد. لكن هو كيف يجب أن يعيش؟ دائماً العمل قبل المعرفة.
***
حتى عتبة المراهقة، كان يشكل كرة غامضة وكافية، عالماً ثقيلاً وشخصيًّا ومضطرباً حيث ما كان ليدخل شيء إليه، لا أهل، لا تعاطف، ولا أي شيء ولا صورتهم، ولا وجودهم، إلا إذا لم يستخدموا ذلك بعنف ضده، في الواقع كانوا يكرهونه، يقولون إنه لن يكون رجلاً إطلاقاً.
كان بلا شك منذوراً للقداسة. حالته كانت من أندر الحالات، أصلاً، كان يستند، كما يقال إلى لا شيء، من دون أن يضعف إطلاقاً مستنداً إلى حدّه الهشّ، ولكن المصمّم، شاعراً أنَّ قطارات ضخمة وبمواد سرّية تمر فيه.
لكن الأطباء، من فرط تهافتهم عليه من الفكرة الجاهزة بضرورة الأكل والحاجات الطبيعية، أرسلوه إلى البعيد، في الجموع الغربية، والمزارعين الصغار التنّينيين، لينجحوا شيئاً فشيئاً في إخضاعه. عقدت كرته الكاملة وحتى أنها عدائية بشكل حسّاس.
***
كان والده في ذلك مثاليًّاً: الانسحاب. لم يكن عنده إطلاقاً ما يقدّمه. كان حذراً، جدّ حذر؛ بمزاج متساوٍ وحزين.
كان يختفي أحياناً كبقعة. ويصاب أحياناً بنوبات عصبيّة رهيبة، مؤلمة، ونادرة، كما عند الفلية، عندما، تاركة هدوءاً كلّفتها سنوات من المراقبة، تستسلم لغضبها من أجل شيء تافه.
***
لتفكيك الكرة، كان هناك أيضاً البرد وريح الشمال، القاسية في هذه البلاد المسطحة تسطيحاً كاملاً، حيث تمر كشفرة.
إطلاقاً. لم يوحه إلى الفرح من أجله.
***
ذبول كبير، الكرة ذبول كبير، بطء كبير؛ دوران قوي. جمود، تمكن، ضمان. الشيء الثابت بشكل خاص الذي غالباً ما نلتقيه، في الفساد، أو في الحالات المرطبة.
***
شفتان ضخمتان لبوذا، مغلقتان دون الخبز والكلام.
***
فقدت الكرة إذن كمالها.
والكمال الضائع، يأتي من التغذية، يأتي من التغذية والتفهم. في السابعة من عمره، تعلم الألفباء وأكل.
***
عاش عدّة سنوات وعينه على العرض الداخلي.
***
في المحصلة، كانت الكتب تجربة
يبحث في الكتب عن الكشف. يجتازها كسهم. فجأة، سعادة كبيرة، جملة... حدث... أي شيء، هنا شيء ما.. وعندها يبدأ بالتركيز على هذا الشيء بأكثر ما عنده. أحياناً، كما الحديث في الجاذبية.....
***
آه! فهم العالم هذه المرة، أو أبداً!
***
تمر سنوات....
سلاسل لا نهائية من الذرات في العالم،
مخيّلة لا نهائية للتفكّر، للشرح.
تمر سنوات...
تبدأ عيناه تخرجان من رأسه
الذرات محبطة.
****
أيّها المسكين «A» ماذا تفعل في أميركا؟ شهور تمر، معاناة، معاناة. ماذا تفعل على السفينة؟ شهور تمر؛ معاناة، معاناة.
أيّها البحّار ماذا تفعل: شهور تمر، معاناة، معاناة، تعلم جيّداً كل الطرق لأنها ستكون الحياة. ليست كلها أبداً، المذلة، لأنها حياتك.
****
الذل لا يُصرخ. إنه برودة. لا شيء لديه لحظوي.
شعور ينضج قريباً، مصمماً، وإذا كان منه النوع السابق، يهدئ اللحظويات الأخرى.
****
عندما لا نجيد عمل شيء، يجب أن نكون مستعدين لكل شيء. يتمتع بهذه الشجاعة. فكرة العمل تخيّم عليه، مثل الفردوس، مستحيل على طبيقه، الدواء غير المصدّق.
****
كل صباح يقوم بفحص ضميره..، ويكرّس يومه كله في اتجاه التأمل، وما بدا له قابلاً للتغيير.
لكن أحياناً هي الأخطار، وأحياناً أخرى تصورات التفاصيل.
وكل صباح عليه أن يبدأ من جديد... ويتأمل. لكن النهار يأتي ودائماً يفيض.
يود أن يعمل. لكن الكرة تريد الكمال، الدائرة، الراحة.