تجتاح العالم، مند سنوات قليلة، اضطرابات عديدة، تجاوزت رقعتها التقليدية الموسومة أساسا بالفقر والتخلف وغياب الديمقراطية، لتحط الرحال هذه المرة فوق عروش أعرق الأنظمة السياسية ديمقراطية، كفرنسا عبر احتجاجات اجتماعية متواصلة لم تقتصر على المظاهرات العنيفة لسكان ضواحي العاصمة باريس سنة 2005 و"حركة السترات الصفراء" التي ميزت الساحة الفرنسية سنة 2018، بل تجاوزتها إلى احتجاجات متواصلة ضد قوانين تستهدف حرية وقدرة الجماهير (قانون "العمل" سنة 2016 وقانون "الأمن الشامل" سنة 2020)، مما يضع جوهر النظام الديمقراطي في هذا البلد في مأزق. المملكة المتحدة كان لها هي الأخرى نصيبها من الاضطرابات التي اكتسحت جغرافيتها مند استفتاء الخروج من الاتحاد الأوربي في 23 يونيو 2016. الولايات المتحدة الأمريكية لم تسلم أيضا من هذا الأمر واجتاحتها مظاهرات حاشدة عقب مقتل المواطن الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد على يد شرطي أمريكي ذي بشرة بيضاء سنة 2020، وقبلها انطلقت من بلاد العم السام، حركة "احتلوا وول ستريت (Occupy Wall Street)" سنة 2011، لتتسع رقعتها بعد شهر من ذلك وتجوب أكثر من 1500 مدينة حول العالم. إضافة إلى تصاعد شعبية اليمين المتطرف في الكثير من البلدان الأوربية مما أربك حسابات هذه الدول، خاصة مع ترهل معظم الأحزاب التقليدية وفقدانها لبريقها أمام مطالب الشعوب وسيطرة الرأسمالية على معظم مراكز القرار في العالم مما يضع النظام الديمقراطي بصيغته الحالية أمام مرحلة مفصلية زادت من حدتها جائحة كورونا وأسقطت عنها ورقة التوت وكشفت الغطاء عن مشاكل هيكلية تعاني منها أرقى الديمقراطيات العالمية.
لعل
المحرك الأساسي لهذه الاحتجاجات، يتمثل في فقدان الشعوب لجزء كبير من قدرتها على
التأثير في سياسات بلدانها وارتهان المؤسسات الحاكمة لمجموعات قليلة من أصحاب
النفود، توجهها بما يخدم مصالحها. نظريا، هناك أليات ديمقراطية من شأنها فتح
المجال للشعوب لمراقبة حكوماتها لكن واقع الحال يعكس صعوبة الأمر؛ تتوالى
الانتخابات وتتغير الوجوه وتبقى السياسات العامة على حالها، وتزداد الهوة اتساعا
بين الأغنياء والفقراء وتتقلص الطبقة المتوسطة تدريجيا إلى أن تنحدر إلى الطبقة
الفقيرة وتشتد سطوة رأس المال شراسة كلما تقلص هامش الربح بفقدان الأسواق أو بمنافسة
قوى اقتصادية صاعدة أو غير ذلك.
يكاد
يجمع الخبراء ومراكز الأبحاث على فرضية تؤكد ارتفاع حدة هذه الاختلالات مع غزو
وباء كورونا للعالم وتوجه أغلب الدول نحو تبني سياسات الحجر والمنع والتحكم في
حركة المواطنين ومراقبتهم تحت مبرر القوة القاهرة وخطاب الأزمة، وباتت في مهب
الريح تلك الحقوق الديمقراطية المكتسبة تاريخيا عبر نضالات طويلة، فُقدت من أجلها
أرواحا وأُريقت لغايتا أزكى الدماء. يحق لنا إذن أن نتساءل عن مآلها ونحن نعلم أن
الشعوب لم تُمنح حقوقها بل انتزعتها بقوة الإرادة والنضال المستمر؟
يبدو
أن الشعوب مقبلة على مرحلة عصيبة ستفقد أتناءها الكثير مما اكتسبته تاريخا، مما
يحتم عليها مواصلة نضالاتها أمام تحول عالمي لم تتضح معالمه بعد وعليها أن تعود
بسرعة لتسترد ما خسرته وتدافع عما يمكن أن تخسره في خضم هذا التحول الذي بدأت
إرهاصاته مند سنوات، خاصة فيما يتعلق بمفهوم السيادة للشعب بعدما أصبح مجرد شعار
أجوف غايته خلق نخب لا تهمها بالضرورة مصالح شعوبها، وعليها الدفع بإعادة صياغة نظام
التعاقد الاجتماعي الحالي وفق تصور جديد يحترم وجودها ويخدم مصالحها ولنا في
التاريخ أرقى العبر.