عند سماع صوت الطبيعة والكائنات البسيطة والتفاصيل الكونية يستطيع شاعر الهايكو خلق نوع من التماهي والتعاطف مع الآخر، في ذات الآن يمكنه اكتشاف الذات والولوج إلى أعماق النفس للتعرف على حقيقتها وكوامنها، فمن خلال احتضان العالم وبالأخص تلك التفاصيل الدقيقة التي لم يتم التطرقُ لها والتعبير عنها بالشعر، يفتح الهايكو آفاقا جديدة لاكتشاف العالم المحسوس، وعبر تلك الكائنات والدقائق الكونية المكتشفة، يستحدث الهايكست تفاصيل جديدة في شعره، وينفذُ إلى المناطق الخبيئة في مجاهل ذاته.
يعطي الهايكو قيمة لأشكال الحياة سواء أكانت مرتبطة بالإنسان أو بالطبيعة والكون، لكي تنطلق رحلة الهايجن إلى عوالمه الداخلية عبورا بالعالم الخارجي واستكشاف كنهه وجوهره، فعلى الرغم من قصر هذا النمط الشعري، إلا أنه يحمل في طياته روحا تأملية من أجل الوصول إلى الكمال من خلال تماس ذواتنا مع جوهر الأشياء. يقول ماتسو باشو "إذا أردت أن تتعرف على الصنوبر، اذهب إليه"؛ فليس الهدف هنا فقط رؤية الشجرة وتصويرها من الخارج، بل علينا أن نتعرف على طبيعتها وجوهرها الحقيقي. ولو تأملنا رحلة سانتوكا تانيداSantoka Tanida (1882-1940) الشاعر الحداثي، نجد أنها رحلة بحث عن الذات مرورا بالتفاصيل الدقيقة في حياتنا اليومية التي ستقود حتما إلى المعرفة الحقيقة بالعالم والواقع الحياتي. إذن فروح الهايكو تعبير عن شعور المرء تجاه الطبيعة بشكل غير مباشر، هذه الروح الجمالية تتجاوز الشكل الياباني الكلاسيكي إلى أسلوب عام للحياة يسعى إلى توحد الذات مع الطبيعة، وامتزاجها مع العالم الخارجي بدلاً من محاولة السيطرة عليه.
مصبُ النهر-
أراهُ اليومَ أضْيقَ
بعيّْني شيخْ
(مزار الأقحوان ص 43)
يمثل هذا النص المختزل رحلة حياة ممتدة منذ الطفولة حتى مرحلة الشيخوخة لاستكشاف الذات عبر التفاصيل اليومية على ضفاف النهر. في هذه الرحلة لا يراوح النهر مكانه، لكن تتغير طبيعته عبر الزمن، فهو يرمز في التواءاته وتعرجاته إلى حياتنا المليئة بالتجارب العديدة المتنوعة، لذا تختلف نظرة الإنسان للأشياء من الطفولة إلى فترة الشيخوخة؛ فالطفل يرى الأشياء بعين المهابة والإجلال خاصة عند رؤيتها لأول مرة، وعلى عكس ذلك يرى الشيخ الأشياء الكبيرة صغيرة قياسا لتجاربه الحياتية؛ وعليه فالنهر انعكاس لحياة الشاعر وعيشها لحظة بلحظة، فعلى ضفافه الممتدة تنشأ علاقة حميمية بينهما ويتنامى الوعي باللحظة الزمنية عبر رحلة البحث والاستكشاف.
بساطة الهايكو
لعلّ ما يفسر سر انتشار الهايكو الذي يُعدّ درةَ الشعر الياباني، وتخطيه حدود الزمان والمكان عنصرُ البساطة وهو في الآن ذاته يمثّل مصدر الجمال الحقيقي، فقد استطاع الشعراء اليابانيون من خلال تلك الخاصية النفاذ إلى روح الهايكو عبر تصوير الجمال الطبيعي في الكون والاحتفاء بكل ما هو روحاني، لذا يعتمد شاعر الهايكو على حدسه في نقل الصورة بلغة بسيطة غاية في التكثيف والعمق.
تلخص الناقدة النمساوية جودرون م جرابرGudrun.M.Grabher ما يتطلبه الهايكو بشكل عام في هذه الكلمات المهمة: "لكي يأتي الهايكو إلى الوجود، يجب أن يكون الشاعر على اتصال بالعالم، من خلال أشياء وأحداث مشتركة، بسيطة وصغيرة، يستطيع رؤيتها وفهمها والتقاطها بلغة سلسلة ودقيقة وموجزة، من أجل مشاركة الآخرين الشعور الذي أثارته هذه اللحظة". يظل الهايكو تعبيرا عن لحظة جمالية تنقل تجربة إنسانية عميقة تبتعد كل البعد عن كلمات المشاعر المباشرة والتكلف في التعبير كاستخدام اللغة المجازية التي تُعد من أهم سمات الشعر بصفة عامة، فهي في الأساس لغة الخيال والجمال الشعري. لكنَّ هذه اللغة المفعمة بالخيال المجنح قد نالت من القيم الجمالية لنصوص الهايكو وأصبحت عبئا عليه، وإن كان لا محالة من الجنوح إلى المجاز، فعلى الشاعر أن يغمس فرشاته في ألوان اللغة المجازية المغرية غمسا خفيفا كي لا تصبح لوحته الشعرية ضبابية خالية من الجوهر الحقيقي للهايكو، وهو البساطة. كما يقدم لنا باشو تصورا حقيقيا للهايكو حين يصوره "كإصبع يشير إلى القمر، فكلما كان مرصعا بالجواهر، لن تستطيع رؤية القمر."
كتب باشو نصه الشهير عندما زار هيريزومي عام 1689، (محافظة إيواتي اليابانية حاليا):
أعشابُ الصيف-
من أحلام الجندي الشجاع
الجَزَّةُ الثانية.
لا شيء في ساحة المكان سوى أثر الدمار، مع ذلك تبدو حشائش الصيف يافعة في عنفوانها؛ فهي تمثل الأبدية ودورة الطبيعة، بينما كانت أحلام المحاربين بسيطة ومؤقتة. يقارن باشو بوضوح بين قوة الطبيعة الأبدية وبين الطموحات الزائلة للساسة وصناع الحروب، وقد استعار لغة رمزية تلمح إلى معان عميقة، مع ذلك لم تكن أداة إبهام تضيق زوايا الرؤية بالنص وتمنع إمكانية سبر أغواره واستكناه بهاء معناه.
تتميز قصيدة الهايكو عن أي لون شعري آخر بخصوصيتها في تناول المفردة اللغوية، "فليس ثمة حيزٌ لفعلٍ غير شعري لشدة الإيجاز اللغوي واقتصاده، وذلك يوجب على الشاعر الاختيار الدقيق لكل مفردة، وكل حرف والانتباه لمحوري الاختيار والتأليف معا انتباها بالغ الدقة ليكون المشهد المكثف التقاطة سريعة مكتنزة بفتنة البساطة"، (د.بشرى البستاني). على الرغم من ذلك فاللغةُ العربيةُ قادرةٌ- بعبقريتِها وخصوصيتِها وتنوع إيقاعاتها وبميزة الاشتقاق التي تهبها خصوصية وتفردا عن بقية اللغات- على أن تستوعبَ جماليات قصيدةِ الهايكو، بل وتُضفي عليها طابعاً عربيا آسراً ومميزاً. تلك اللغة المعروفة بقوتها وثراء مفرداتها التي مكّنت الشاعر العربي من أن يكتب نصوصا طويلة مفعمة بالخيال وأساليب البلاغة الجامحة، لقادرة على أن تروض نفسها وتكبح جماح المجاز المفرط الذي يحول دون بساطة الهايكو.