في كتابه الموسوم «موت التاريخ منحى العدمية في أعمال محمود درويش الأخيرة» لأحمد دلباني الأستاذ في جامعة بسكرة/ الجزائر والصادر عن دار نشر «فيسير» الذي استهله بهذا البيت الذائع لامرئ القيس:
وطوفـــــت في الآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب
وأحمد دلباني أستاذ الفلسفة عرف في كتابه هذا كيف يجمع بين اللغة النقدية المطعمة بالفلسفة، والأدبية في الوقت ذاته لتذوق وتفسير الخطاب الشعري الأخير للراحل محمود درويش. يذكرك الكاتب بالأديب أبي حيان التوحيدي أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، ففيه شبه من فكر أبي حيان وملمح من ملامح شخصيته المتوترة الباحثة عن النفاذ إلى بطن المعنى فلا تدري أتصنف الكتاب في المبحث الأدبي المتعلق بالنقد الثقافي، أم في المبحث الفلسفي وهو يقارب أسئلة الوجود الكبرى وأسئلة الإنسان والتاريخ، تلك المحاور التي دار حولها شعر درويش في المرحلة الأخيرة من عمره.
أثر عن القاص الراحل يوسف الشاروني قوله :«ولدنا كأبطال السير الشعبية وها نحن ننتهي كأبطال التراجيديا الإغريقية» مسار إنساني يبتدأ فيه الواحد بحماسة عنترة أو أبي زيد الهلالي أو الزير سالم كله حماسة بإحقاق العدل وإعادة الأمور إلى نصابها والزمن إلى ربيعه، ونهاية إنسانية فجائعية شبيهة بنهاية أوديب مفقوء العينين أمام القدر، فما صارع القدر أحد إلا صرعه أوليس الموت والفناء مصير الإنسان المحتوم، يتهاوى على تلال الوجود كنفضة رماد حزينة معلنا عن الخيبة واللاجدوى؟
قسم الكاتب كتابه الجدير بالقراءة إلى ثلاثة فصول وقد تمرد على التقسيم أو التصنيف الكلاسيكي للمباحث النقدية والفلسفية، فصاغها صياغات شعرية وهو لا يقدم ترجمة ولا اهتماما بالأحداث التاريخية الكبرى في حياة درويش، فهي مبذولة لكل طالب بقدر ما يستنطق عباراته الشعرية قارئا لها بعقل فلسفي، ونفس متذوقة لرائحة الشعر وطعمه، ففي المقدمة جاء العنوان هكذا: «الصحو القاسي أمام وردة الهباء» ثم «سردية القوة: سقوط التاريخ في العبثية واللاجدوى» ثم «غبطة الشعر: إفاقة اللغة من نعاس الكلام السائد» وأخيرا «نهاية كأكثر البدايات إشراقا».
النقد الثقافي
درويش الذي اتجه في خاتمة المشوار، كما يرى الناقد، إلى البحث في أسئلة الوجود الكبرى، خارجا عن سلطة النصوص التاريخية ووصاية مؤسسة الأدب، لتعلن هذه الأشعار الأخيرة العدمية وموت التاريخ والسرديات الكبرى للحداثة الكلاسيكية كالتاريخ والثورة ومركزية الإنسان.
وتندرج مقاربة الأستاذ دلباني في إطار ما يسمى بالنقد الثقافي تاركة السير في سبر عوالم التشكيل الفني والإبداعي للمنجز الدرويشي للناقد المحترف-وهو تواضع منه – والمتسلح بأدوات الاستقصاء الأدبية والشعرية، كما يصر الناقد، إنه يترصد وجه درويش الأخير وصوته المقاوم للعبثية والمسائل للكينونة الإنسانية، وهو الذي عرف بكونه الشاعر المقاوم والمعبر عن الهوية الفلسطينية، وكان أيقونة النضال الفلسطيني، وهو بلا شك سفر ضخم من أسفار تكوينه، هذا النضال الذي مثلت فصوله نخبة من شعراء فلسطين كإبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود وفدوى طوقان ومحمد القيسي وعبد الكريم الكرمي وسميح القاسم ومعين بسيسو وغيرهم، غير أن درويش في المرحلة الأخيرة من حياته، توجه إلى الشعر الصافي بعيدا عن أبجديات البطولة والنضال، مخلصاً الشعر من ظروفه الضاغطة، كما يقول الناقد
ففي سردية القوة سقط التاريخ في العبثية واللاجدوى، وهو الذي بدأ متحمسا ككل مثقف عربي علماني لمقولة اختفاء السماء أمام الوعد الذي تصنعه الجدارة الإنسانية، ها هو في المختتم يفيق على الفاجعة في الزمن السيزيفي، حيث تراجيديا الوجود وخواء المعنى، لقد بدأ ككل شاعر حالم نشأ على أبجديات النضال الفلسطيني، وفي إطار الوعي العربي القومي وسياقات الحداثة العربية المنبثقة عن عصر النهضة، وخطاب الأنوار، حيث الأولوية للعلم والحداثة والجهد الإنساني الخلاق، الذي يستولد رحم التاريخ تاريخا جديدا بكرا، حيا منفصلا متصلا ومتصلا منفصلا على قيم المواطنة، من مساواة وحرية وديمقراطية وأخوة إنسانية وفق المبادئ العلمانية التي لا تستجدي غيبا، ولا تنتظر منة، اللهم إلا كفاح الإنسان ضد الاستلاب والقهر الداخلي والاستعمار الخارجي، ها هو لم يعد بمأمن من مآزق اللحظة التاريخية ومهاويها، فالعدمية تفغر فاها على خرائب الرؤية الإيجابية للتاريخ كما عبر درويش:
لقد تفشى النثر في الصلوات
وانكسر النشيد
هذا الشاعر الإنساني الذي عرف الملاجئ منذ الصبا، كما عرفها الشعب الفلسطيني، وشكلت وعيه الفاجع، ولم يعد في وسع الثوري أن يجابه المأساة بخطاطته الجاهزة ويوتوبياه الثورية، فالعنف السردي الذي واكب قتل الحلم وصار بعده الوطن ساكنا على جناح فراشة، كما عبر عن ذلك الشاعر في حضرة الغياب «بساعة نحس دخل التاريخ كلص جسور من باب وخرج الحاضر من شباك، وبمذبحة أو اثنتين انتقل اسم البلاد إلى اسم آخر».
من الثيمات التي ترددت في شعر درويش الأخير كما يرى الناقد ثيمة الحب والموت، والحب الذي يلج به الشاعر على عالم الفناء في لحظة عناق واندغام أشبه بالفناء الصوفي ألم يقل ابن الفارض:
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل
فما اختاره مضنى به وله عقل
وبالحب يتغلب الشاعر على مرارة اللحظة وضبابيتها ويمهر سديم اللحظة بطابع التأصل في اللحظة الشعرية المتغلبة على الضجيج الثوري والخطاب الماركسي وضجر الخلود:
أحبك حتى أعود إلى عدمي
زائرا زائلا لا حياة ولا
موت في ما أحس به
طائرا عابرا ما وراء الطبيعة
حين أضمك.. /سرير الغربة
بالحب وبالفن ينتصر الإنسان على خواء المعنى وقبح العالم ومأساة الوجود التي تنتهي إلى التلاشي والاضمحلال وبهما وحدهما يتعإلى الإنسان الخالق على سطحية السرديات وراهنية الخطابات الشعرية المثقلة بأصباغ الأيديولوجيات، فالتاريخ لا تكتبه شعرا كما نص درويش:
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين، مسلة المصري، مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبد هزمتك
وانتصرت وأفلت من كمائنك
الخلود…
لقد انتصر نيتشه على ماركس وإذا كان ألبير كامو يقول «بعد موت الله لم يبق إلا التاريخ والقوة» فإن درويش يقول في جدارية «إذا اتفقنا فلسفيا في الموضوع فحياتنا المعاصرة تموت المعاني الكبر فيها وتتساقط» بما فيها طبعا آفاق الخلاص الدينية والعلمانية معا.
القوة العمياء
التاريخ الذي هو سردية القوة العمياء، لم يتبق فيه إلا الخلاص والتطهر بالفن وبالشعر، بشرط أن تفيق اللغة من نعاس الكلام، وأن تحرث في حقول بكر وتراود المعاني الكبرى للوجود، تلك المعاني التي حام حولها شعراء كبار تأثر بهم درويش وبحسهم التراجيدي مثل، أراغون ولوركا ونيرودا .
في الفصل الأخير أتى الناقد على الثيمات التي تناولها درويش في نصوصه الأخيرة كالموت الفردي وموت التاريخ والخلاص من داء الغياب بالفن، واللغة وطن ما دامت مسكونة بأنشوطة الحياة وتراجيديا الوجود وشقاء الإنسان المعاصر في هذا العالم، ومآسي الإنسان المغتصب تاريخه وأرضه ولغته وذاكرته ومنافيه وموته، الذي لا يحفل به أحد، تلك المعاني التي حوم حول بعضها شعراء كثر بدء بامرئ القيس وانتهاء بدوريش وأراغون وأدونيس.. تمثيلا لا حصرا:
لا أريد الرجوع إلى أحد
لا أريد الرجوع إلى بلد
بعد هذا الغياب الطويل
أريد الرجوع فقط
إلى لغتي في أقاصي الهديل/ «جدارية»
هذه اللغة التي يرحل عبرها الشاعر وبها بحثا عن قطاة الروح من أجل البحث عن الماء في صحراء العالم.
وختاما هل يموت الشعر الفلسطيني بحل القضية؟
لقد ظل درويش صوت الإنسان المناضل والمتشبث بأرضه وبقهوة أمه وبعبق الفجر المندى في قرى الوطن المغتصب، وهمسة النجوم في سمائه وبسمة الصبايا المغتسلات في وديانه، كما أدرك بغريزته الشعرية الإنسانية المتأصلة فيه كذلك، أن الشعر الصافي هو ما يتجاوز الحدث المباشر إلى ما عبر عنه دريدا في قوله»سيظل الشعر مقاومة بهية منذورة للفشل المقدس أمام هيروغليفيا السر».
مقاربة جادة وواعدة من أحمد دلباني في عالم درويش الشعري والإنساني ولغة رصينة فلسفية معمدة في نهر الفن، تحفر في جدار هذه اللغة وتكتشف بعد التحليل ملاط الفكر والفن معا. مزيج إذن من التذوق والفكر المتلبس بلباس النقد الثقافي في النصوص الأخيرة لدرويش، تتيح للقارئ أن يتذوق هذه النصوص التي أتى بها الناقد والرؤى التفسيرية والتحليلية لمضمونها الفكري والإنساني، وهو خليق بأن يهنأ على هذه المقاربة الجادة والناجحة لغة ومضمونا والقارئ ينتظر منه أعمالا أخرى..