لا بد من إعادة النظر، جذرياً، وعلى نحوٍ شامل في نوع «التقدم» الذي «يمارسه» العرب؛ فهذا «التقدم» ليس «معرفياً» وليس «علمياً» وليس «تقنياً»، وليس «اجتماعياً– إنسانياً». إنه «تقدم» الآلة التجارية– الاستهلاكية، بدءاً من استهلاك ثمار العلم إلى استهلاك الصناعة والسلاح. إنه باختصار تقدم «المعدة»، لا تقدم «الرأس». إنه «البصر» في معْزلٍ عن «البصيرة». وفي هذا ما يفسر أن «الإنسان- كفرد» في العالم العربي لا وجود له كإرادة وفاعلية تاريخية. وإذاً فإن الكلام على «حقوقه» عبثٌ ولهْوٌ. هكذا يستطيع العربي أن يضيف (من «إبداعاته»، هذه المرة!) إلى مفهومي «نهاية التاريخ» و«نهاية الحضارة»، مفهوم «نهاية الإنسان».
يستطيع الفارابي كذلك أن ينهض، من غيابه، قائلاً، مخاطباً أحفاده:
«كل موجودٍ في ذاته فذاته له، وكل موجودٍ في آلةٍ، فذاته لغيره».
والحق أن العربي، اليوم، تخطى كونه موجوداً في «آلة»، بحيث أصبح هو نفسه مجرد «آلة»: لا ذات له تدير هذه الآلة، ومن لا «ذات» له، فإن حياته تقوم، جوهرياً، على «التبعية»: ليس إلا أداةً أو لبلاباً يعرش ويتسلق.
-2-
لمناسبة اليوم العالمي للغة العربية في أواخر السنة المنصرمة، كان على المشاركين فيه أن يشيروا إلى هذه الظاهرة التي تندر في اللغات الحية، وهي التالية:
يتقن اللغة العربية اليوم، أشخاصٌ من أصول غير عربية أكثر مما يتقنها العرب أنفسهم، بدءاً من أعلى المؤسسات الدينية مروراً بالأمانة العامة للجامعة العربية وانتهاءً برجال السياسة، وبمعظم أساتذة اللغة العربية في الجامعات والمدارس. اللغة العربية لا تموت بفعل الهيمنة التي تمارسها اللغات الأخرى، بمقدار ما تموت بين شفاه أبنائها أنفسهم.
الإنسان هو لغته. إذا ماتت، فكأنه مات. اللغة العربية – بأوضاعها، وبمحدوديات آفاقها بفعل الرقابة، والعقلية الرجعية المرتبطة، على الأخص، بحججٍ تستند إلى الدين، وبضيق المساحات التي يتحرك فيها الإبداع – إنما تعيش في حالة احتضار. يكفي أن نراجع معجم هذه اللغة نظرياً، ونقارن ما نستخدمه من مفردات هذا المعجم بما ينطوي عليه. يكفي هذا لكي نكتشف مدى تراجع هذه اللغة، ومدى انحسارها، إضافةً إلى مدى التخلف العربي في هذا الإطار.
-3-
السياسة أو السلطة أو التجارة، مهما كانت عظيمة لا تحفظ هوية الإنسان، وبالأحرى هوية الشعب. يحفظها الإبداع.
هكذا نرى أن العالم العربي هو الذي يكتب كتابه، وأن الحبر هنا هو السياسة، والرقابة… وهو الجهل أيضاً. الحقيقة فيه معطاةٌ سلفاً ولا حقيقة غيرها. وهذا، جوهرياً، ضد البحث والمعرفة وضد الحقيقة، وضد الإنسان في آن.
الحقيقة طريق، سؤال متواصل. استقصاء داخلي وخارجي، وليست جرعةً نأخذها، وتظل هي هي إلى الأبد. ما من أحدٍ يمتلك الحقيقة، على نحوٍ أخيرٍ وكامل ونهائي.
والذين يقولون بيننا بالعودة إلى «الأصول»، ينسون أنها أولت سياسياً واجتماعياً، بحيث أصبح النص– الأصل مطموساً بحجبٍ عديدة من التآويل والحروب السياسية والاجتماعية. وهو «موروثٌ» حوله الصراع السياسي إلى مجرد رأسمالٍ «مادي» للقبض على السلطة.
-4-
«الاعتقاد» من دون «انتقاد» عماءٌ فكري وإنساني. وقد حولت السياسة النقد إلى هجاء، والفكر إلى كفر. كلا ليست الأزمة التي ترج العالم العربي منذ عقدٍ من الزمن، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية فقط. إنها قبل ذلك أزمة وجودٍ … الإنسان علاقة ثلاثية: مع نفسه، مع الآخر، ومع العالم. ويفترض، إذاً، أن تكون له حياة نفسية خاصة، متنوعة ومعقدة. وهو افتراضٌ يتضمن أن صاحب هذه الحياة ليس موجوداً إلا بمقدار ما تكون حياته النفسية إعادة نظرٍ دائمة في معاييره وقدراته، في هويته الخاصة، الحميمة، والقومية العامة، واللغوية، ورغباته وآلامه، وحبه وكراهيته. لكن هل ينطبق ذلك على الأفراد العرب؟ هل لكلٍ منهم حقاً، حياةٌ نفسية، بهذا المعنى، وعلى هذا المستوى؟
ومعنى ذلك أن الفرد العربي ليس «تجددياً» في عالمه الداخلي، وفي علاقاته مع الآخر، ومع العالم. فكيف يقدر إذاً أن يكون «تجددياً» في المجتمع؟ والحق أن العرب لم ينجحوا في تاريخهم كله أن ينتقلوا تماماً من مجتمع القبيلة والعشيرة، إلى بناء مجتمع يقوم على الإنسان، بوصفه إنساناً، وعلى حقوقه وحرياته، بوصفه كائناً مدنياً. وقد دشنت القرن الحادي والعشرين أمثلة حية في تدمير الذات، وتدمير العمران، والمنجزات الحضارية.
هكذا كان «الربيع العربي» مزيجاً عجيباً من الدعوات والمواقف، الجيدة أحياناً، والكثيرة التوحش، غالباً؛ كان سوقاً لبيع «الرؤوس» البشرية، وشرائها. وقد أثبت أن الإنسان الذي لا يقدر أن يحدد نفسه إلا بماضيه الأكثر جموداً، إنما هو كائنٌ يحيا بلا حياةٍ – كأنه مجرد «آلة» أو «شيء»…
ليس القبول بتحويل الإرهاب إلى عملٍ وإلى فكر أيضاً باسم الدين، بدعوى محاربة «الكفار» وقتلهم، إلا قبولاً بالطغيان بوصفه قاعدةً للعلاقة بين الحاكم والمواطن. ذلك أنه وفقاً لهذا القبول، يكون طغياناً طبيعياً ومسوغاً، ومأموراً به دينياً، للفتْك بالبشر، «تأديباً» لهم، أو «رحمةً» بهم، أو «عطفاً» عليهم.
استطراداً يمكن القول إن التحاق السياسة العربية بالسياسة الأميركية في تبعيةٍ شبه مطلقة، لا ينبع من الحاجة إلى الاستقواء بها وإلى التسلح، فهي موضوعياً في غنى عنها، خصوصاً على الصعيد الأكثر أهميةً: الاقتصاد. وإنما تنبع بالأحرى من ثقافةٍ مترسخة في التراث السياسي. وهي ثقافة تنهض على الإيمان بأن الإنسان المخلوق يمكن أن يكون خليفةً لخالقه على الأرض، بدعوى العمل على تطبيق تعاليمه وأحكامه. وهي، إذاً، ثقافة تعلم الالتحاق بالسياسة الأكثر فاعليةً وهيمنةً في العالم.
في إطار ما تقدم يمكن القول: ماضياً، كان العالم الإسلامي حتى سقوط الخلافة في صورتها العثمانية هو الذي «يمتحن» العالم. أما حاضراً، فإن العالم هو الذي «يمتحنه».
عن الحياة اللندنية – بتصرف