يقول عنه صالح الطرابلسي في كتابه «الحلم المتمرد قراءة في كتابات جلال المخ» الصادر سنة 2018عن المطبعة الثقافية إنه «كائن إبداعي متعدد الاختصاصات، يتشظى بين الإبداع باللغتين العربية والفرنسية. فهو شاعر وقاص، بالإضافة إلى أنه باحث وناقد، قدّم الكثير من الكتب الإبداعية، وتناول بالنقد والتحليل العديد من النصوص مكتشفا فيها ما لم يكتشفه نقاد من قبله. وهو مترجم أيضا فتجربته في الكتابة تمتد على أكثر من ربع قرن، ولا تزال متواصلة، وهي عبارة عن رحلة عشق لامتناه مع الإبداع. وقد أنتج أكثر من ثلاثين مؤلفا بين المقالة والدراسة والشعر والقصة والترجمة. وفي ضاحية حمام الأنف جنوب العاصمة تونس،التقينا الشاعر جلال المخ، فكان هذا الحوار:
□ المتتبع لمسيرتك الأدبية والإبداعية على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود يلاحظ أنك متعدد الاهتمامات. فقد جربت الشعر والقصة والكتابة النقدية والترجمة. فما الذي يعنيه بالنسبة لك ذلك التعدد؟ وفي أي غرض من تلك الأغراض يمكن أن تجد نفسك أكثر من الآخر؟
■ كثيرا ما طرح عليّ هذا السؤال حول تنوع كتاباتي بين القصة والشعر والدراسة والبحث والترجمة. والحقيقة أن هذا التنوع لا يسبب تشتتا كما قد يتبادر للذهن، بل إنني أرى فيه إثراء لتجربتي في الكتابة، التي تأبى الانغلاق على جنس كتابي واحد، وتعمد إلى التجريب في أجناس متعددة. وهذا يعني إني لا أحبذ التخصص في جنس ما، لكني لا أدينه، وأؤمن بحرية الكاتب، وباتساع رقعة اهتمامات المبدع. وعبر تاريخ الآداب العربية والعالمية، برز كثير من الكتاب عرفوا بكتاباتهم الشعرية والسردية والمسرحية، وبضلوعهم في الوقت نفسه في الدراسة والبحث. ومن وجهة نظري يأبى الإبداع وتأنف الكتابة عن أن تسجن في قوالب تصنيفية أو تنظيرية، لذلك أعمد أحيانا إلى التداخل بين الأجناس وإزالة الحدود بين الأنماط الكتابية، بل إن العصر الحديث لا يشهد تداخلا في ضروب الكتابة حسب، بل مزجا وتفاعلا بين مختلف الفنون، من مسرح وسينما وفنون تشكيلية وموسيقى وكتابة، لأن الغاية من الفنون واحدة وهي الارتقاء بالذوق البشري ومعالجة القضايا الإنسانية حيثما كان الإنسان، ومهما اختلفت الوسائل المؤدية إلى ذلك. أما عن الغرض الذي أجد نفسي فيه أكثر من غيره، فلا يمكنني تحديد ذلك لأني أمر بفترات تطغى فيها البحوث والدراسات أحيانا، وبأطوار تشهد غزارة في الكتابة الشعرية أو القصصية. وكل ما يمكنني قوله في هذا الصدد، هو إن كتاباتي أخذت منحى شعريا واضحا في العشرية الأخيرة، حيث أصدرت ما يزيد عن عشر مجموعات شعرية، لكن هذا لا يعني أني لم أكتب خلال الفترة نفسها في بعض الأغراض الأخرى.
□ أصدرت مؤخرا خمسة دواوين شعرية دفعة واحدة وهي بعنوان «أكتب ما أنا بكاتب» و«من سفر التكوين» و«جراحي تسمع صوتي» و«البارحة بت بلاقصيد» و«كان ما كاد يكون» ما يعد سابقة في بلد مثل تونس يعاني فيه الكتاب والشعراء من مشاكل وصعوبات في النشر فما الذي دفعك لتلك التجربة؟
■ في إبريل/ نيسان من هذا العام أصدرت خمسة دواوين شعرية دفعة واحدة كما ذكرت، وقد سبق أن نشرت قبلها وفي مناسبتين ثلاثة كتب في الوقت نفسه. وصدورها في يوم واحد لا يعني بالطبع إنها كتبت دفعة واحدة، بل هي حصيلة سنتين من الكتابة الشعرية المتواصلة. وهذا يجرنا حتما إلى الحديث عن موضوع النشر ومسالك توزيع الكتاب في تونس. في الواقع فإن هذا القطاع يشهد انخراما كبيرا وضحاياه هم الكتاب والشعراء، لأن نفقات النشر ونسب ربح الناشر يدفعها في الغالب هؤلاء، وهذا ما أرهق المبدعين. فأنا مثلا أصدرت أكثر من ثلاثين كتابا، أكثر من نصفها مولته من حسابي الخاص، من خلال قروض بنكية. وما يزيد في اتساع رقعة المهزلة، أن إدارة الآداب في وزارة الثقافة قد تقتني أحيانا خمسين نسخة حسب من باب تشجيع الكتاب. وهذا العدد المخجل يدل على ازدراء غير معقول لهذا القطاع.
□ كتابك الأول يحمل عنوان «طغاة العالم» ويتضمن قائمة ببعض الطغاة والمستبدين في فترات مختلفة من التاريخ. إن وسعت تلك القائمة اليوم فمن ستضيف إليهم؟
■ «طغاة العالم» هو أول إصداراتي وظهر في صائفة 1990 واستوحيت عنوانه من قصيد شاعر تونس الأكبر أبو القاسم الشابي، وصدّرت به الكتاب. وما دعاني لكتابته هو سقوط عدد كبير من الطغاة في افريقيا وآسيا في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. ففكرت في البحث في سيرة بعض المستبدين في مختلف العصور والكشف عن الميكانيزمات التي تعمل من خلالها الذات الطاغية. وبما أن موضوع الطغيان أزلي ومستمر، فإني أفكر بالفعل في إعادة نشره، خصوصا بعد تجربة الربيع العربي التي انتهت بسقوط عدة نماذج من الحكم الفردي. وكتاب «طغاة العالم» لم يخل، على أي حال، من التعرض لرموز عربية لطغاة مشهورين مثل الحجاج بن يوسف الثقفي والحاكم بأمر الله الفاطمي وإبراهيم بن الأغلب في الدولة الأغلبية ومراد الثالث في الدولة المرادية. ولا شك في أن العالم العربي لا يزال اليوم يعاني من الاستبداد ومن الحكم الفردي، لكن لا يمكن تصنيف هؤلاء جميعا في الكتاب، لان الاستبداد أخذ أشكالا جديدة ومغايرة. أما ما يصنع الطاغية ويفسح المجال لبروزه فإن جزءا كبيرا من المسؤولية عنه تتحملها الشعوب. فالطاغية يترعرع في رحم الشعب المستكين، ولا يمكن التصدي لذلك إلا من خلال مؤسسات مدنية قوية وشعوب واعية. ولنأخذ مثال تونس، فاليوم بات المجال خصبا لصناعة ديكتاتور والشعب الذي عرف بعد الاستقلال مستبدين اثنين هما بورقيبة وبن علي، بات يطالب الآن بمستبد جديد لإنقاذ البلاد من أزماتها الخانقة. وهذا ليس مقبولا ولا يمكن أن يكون فشل حزب النهضة ذريعة للقضاء على الديمقراطية والدعوة لعودة الاستبداد. والشعراء وعلى مرّ العصور حملوا شعوبهم مسؤولية صنع الطغاة والرضوخ لانحرافاتهم من ذلك مثلا تلك الابيات التي قال فيها الشاعر اليمني عبد الله البردوني: وأذل ما في الأرض شعب يجدي مستعمرا ويؤله استبدادا ويئن من جلاده وهو الذي صنع الطغاة وسلح الجلادا.
□ في كتاباتك نلاحظ ازدواجا في اللسان فإلى جانب العربية، أصدرت عدة أعمال بالفرنسية، فما الذي جعلك تختار لغة موليير؟ هل لأنك أردت استهداف جمهور غير عربي؟ أم لأنك ترى أن العربية قد لا تعبر أحيانا وبشكل تام عما تريد إيصاله؟
■ مسألة الكتابة باللغة الفرنسية إلى جانب العربية لا تزعجني البتة. ولا أشعر بأي اغتراب داخل مسالك هذه اللغة، لأني لا أنظر لها بمنطق أنها لغة المستعمر السابق، بل اعتبرها مكسبا ثمينا وإثراء لتجربتي الكتابية، لأني اتجه للإنسان عموما حيثما كان. إن تشبعي بالآداب العربية عامة، والآداب الفرنسية خاصة، بالإضافة إلى تخصصي في اللغة العربية، يجعل آفاقي الكتابية أرحب، واطلاعي على تجارب المبدعين أوسع. إنها نافذة أخرى على العالم. وأنا إلى جانب الفرنسية أتقن الإنكليزية والإيطالية، وأحلم يوما بالكتابة بهما لأمتلأ بأحاسيس أخرى تضيف إلى عوالمي الشعرية والمعرفية، وتجعلني أعانق الإنسان بطرق مختلفة، لأن اللغة في الاخير وسيلة للتواصل، وأنا لا أقدس اللغات، بقدر ما أقدس الحياة والإنسان.