1- تقوم مؤسسات التعليم العالي والجامعي خصوصا بدور اساسي هام في تحريك عجلة التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية من خلال الوظائف المتعددة التي يؤديها النظام التعليمي الجامعي عبر تأهيل الموارد البشرية القادرة على انتاج المعارف التي يتم تطبيقها في مختلف مجالات الحياة النشيطة، ولقد تزايد الاهتمام بموضوع ربط وظائف التعليم العالي الاساسية بمجالات التنمية لدرجة ان تقويم فعالية هذا النظام اصبح يعتمد اعتمادا كليا على مدى ملاءمة اهدافه لمتطلبات التنمية الشاملة في البلد الذي تمارس فيه هذه المؤسسات وظائفها ومدى قدرته على مواجهة التحديات التي تفرزها عمليات التنمية.
ان الجامعات ومؤسسات التعليم العالي تمثل القيادة الفكرية والعلمية في المجتمع لما يتوافر لديها من كوادر مؤهلة تأهيلا عاليا على التعامل مع المشاكل والتحديات التي تمر بها المجتمعات المعاصرة ولقد اعتبرت Epifania r.Resposo ان الجامعة تمثل (مجتمعا علميا يهتم بالبحث عن الحقيقة وان وظائفها الاساسية تتمثل في التعليم والابحاث وخدمة المجتمع)، وهي بالتحديد الوظائف الرئيسية التي تمارس الجامعة من خلالها خدماتها مما يعني ان هناك علاقة بين هذه الوظائف من جهة والتنمية الشاملة من جهة اخرى .
2- ان التنمية الشاملة التي تكون وراء تقدم امة من الامم انما تنبع من الحجم الهائل للمعارف التي تنتجها في ميادين العلوم والهندسة والتكنولوجيا ومدى اهتمامها ببيئة الابتكار والتجديد باعتبارها منبعا لإنتاج هذه المعارف. وعلينا ان ندرك ان التفوق العالمي للغرب او الصين او اليابان.. انما يعتمد بدرجة كبيرة على الابداع التكنولوجي وزيادة الاستثمار في البحوث العلمية الاساسية وتوسيع سوق المعرفة التقنية وتعظيم دور واسهام الجامعات والمعاهد العليا ...مع الاهتمام الدائم والمتجدد بتمويل البحوث العلمية والاصلاح التعليمي وتنشيط العمل واسواق راس المال وحيوية البيئة التجارية ...كل هذا وذاك جعلها تحافظ على ميزتها المتقدمة وتبقيها متفوقة في كافة المجالات.
ولقد استطاعت هذه الدول المتقدمة بواسطة البحث العلمي تحقيق مكتسبات مثيرة للأعجاب في التكنولوجيات المتقدمة: التكنولوجيا الحيوية- برمجيات الاتصالات – الليزر- تكنولوجيات الفضاء – الادوات العلمية– الحواسيب–عالم الطيران – اجهزة الاتصالات –– الاختراعات الطبية والصيدلية من اللقاحات والعقاقير..
لا يخفى على احد ان اغلب هذه الانجازات التكنولوجية التي تم تحقيقها على الصعيد العالمي كان مصدرها الجامعات ومراكز البحوث العلمية التابعة لها. وكل الابحاث التي قامت بها الجامعات عبر التاريخ كان لها اثر كبير على التنمية في مجالات عدة كالزراعة والصناعة والطب والخدمات العامة بالإضافة الى جوانب اخرى من المتطلبات الانسانية. وعلى الرغم من ان عددا مهما من مراكز الابحاث قد انشئ بصفة مستقلة عن المؤسسة الجامعية وعلى نطاق عالمي تقريبا فان الابحاث الجامعية لا تزال الى حد بعيد اكثر اهمية واكثر دقة من غيرها وهي تواصل نموها وتقدمها.
البحث العلمي والتكنولوجي في مواجهة الحرب الوبائية
بعد ظهور وانتشار وباء كورونا "كوفيد19" باتت الحاجة ملحة الى دور البحث العلمي في المجتمع، لذا التجأت الحكومات والدول الى الجامعات والى المختبرات الجامعية من اجل التوصل الى حلول ناجعة لمجابهة الفيروس المدمر للإنسان والحياة، ليعود من جديد الاهتمام بالبحث العلمي وقدرة اصحاب الخبرات والكفاءات والمهارات على انقاد الناس والمؤسسات من الازمات والافلاس ...ان البحث العلمي اصبح وكانه جزء لا يتجزأ من الامن القومي .
بعد ان تفشى وباء كورونا المستجد في كل دول العالم، وحاصر الحياة وهدد الامن الصحي، بل الوجود الانساني، انتفضت مؤسسات البحث العلمي وانخرطت في الحرب ضد الفيروس القاتل عبر اجراء بحوث علمية مكثفة مستخدمة التكنولوجيا والتقنيات المتطورة، لتبدا بعد ذلك خطط وقائية محلية ودولية ترجمت لاستراتيجيات فاعلة لمواجهة الوباء، كما ان المنظمات العالمية مثل اليونيسكو والصحة العالمية انخرطت في التصدي لهذا الوباء "الاممي" القاتل قبل فقدان السيطرة عليه، مؤكدة انه
( ينبغي للعلوم ان تساهم مساهمة كبيرة في تمكيننا من التغلب على الازمة الراهنة الناجمة عن جائحة كورونا وفي مساعدتنا على بناء مجتمعات اكثر عدلا وانسانية واستدامة ) اودري ازولاي – المديرة العامة لليونيسكو –بمناسبة اليوم العالمي للعلوم من اجل السلام والتنمية.
ودعت منظمة اليونيسكو الى وجوب الاحتفاء والاهتمام بالعلم والعلماء في المجتمعات المستدامة، لأنه لابد من تثقيف المواطنين واشراكهم في العلوم و شددت المديرة العامة لليونيسكو على ضرورة ان تؤدي الازمة الراهنة الى ايجاد قناعة تامة تقطع الشك باليقين بضرورة تلبية الحاجة العاجلة الى تحسين تمويل ودعم البحث العلمي والتعاون في الميادين العلمية من العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والانسانية ، لان الفيروس تسبب في ايجاد واقع اجتماعي جديد لا يمكن اختزاله في البيانات الوبائية فقط، فالعلوم عليها ان تساهم مساهمة فعالة في تزويدنا بالمعلومات اللازمة للوقوف على كيفية مكافحة هذه الجائحة وسيؤدي مراعاة المعارف العلمية الى سن سياسات عامة والى تعزيز فعالية هذه السياسات التي عليها ان تكون سياسة انسانية اي تسخير الابتكارات العلمية في هذا المجال لصالح الناس كافة وتحوير هذه الابتكارات لتأخذ رؤية إنسانية.
انه منذ ظهور فيروس كورونا المستجد في ديسمبر 2019والحديث لا يتوقف من جانب الباحثين والخبراء حول تداعياته المستقبلية على كافة مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والامنية الى درجة ان ( عالم ما بعد كورونا) بات مصطلحا دارجا يتم تداوله على نطاق واسع في اشارة الى التحولات التي قد تحدث في المستقبل نتيجة هذا الوباء المتفشي في العديد من دول العالم.
ان الاستراتيجية المستقبلية تتطلب التركيز على قطاعات الصحة والتكنولوجيا والامن الانساني والغذائي، كما ان مستقبل الاقتصاد يتوقف على مدى التطور الذي نحققه في مجالات الطب والهندسة والتكنولوجيا بكافة فروعها العلمية.
في هذا الشأن نستحضر اعلان وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي – قطاع التعليم العالي والبحث العلمي – قرارها بتمويل 88 مشروعا من مشاريع البحث العلمي ذات الصلة بوباء فيروس كورونا المستجد، وهذه المشاريع تم تمويلها بشراكة مع الجامعات المغربية، اضافة الى مشاريع اخرى حصلت على الراي الايجابي من طرف الاقطاب الجهوية الجامعية الاربعة والتي تم تقييمها من طرف خبراء المركز الوطني للبحث العلمي والتقني ..وهذه المشاريع منها ما يهم المجالات العلمية والطبية والتكنولوجية كما ان منها ما يهم مجلات العلوم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ...وكلها حسب بلاغ الوزارة تتوخى الاستفادة من نتائجها في مواجهة جائحة كورونا ..فهل تحققت الأهداف المسطرة من هذا البرنامج .. وليس فقط وضع الاختام الرسمية على اوراق مشاريع الابحاث العلمية؟؟؟
دور البحث العلمي في مجتمعنا وجامعاتنا
في بلدنا عهد بمهمة القيام بالأبحاث العلمية في مجالات مختلفة الى المؤسسات الجامعية والى المراكز البحثية التابعة لها، وذلك لسببين رئيسيين اولهما ان المؤسسة الجامعية تتوافر لديها الموارد العلمية والبشرية القادرة على القيام بنشاطات الابحاث المرتبطة بحاجات التنمية في مجتمعنا، وثانيهما ان الجامعات الوطنية تعد المؤسسة الوحيدة التي يمكن عن طريقها القيام بنشاطات الابحاث بصورة انضباطية والتي يمكن ان تقدم الخدمة الاستشارية التي تحتاجها قطاعات المجتمع المختلفة.
منذ ان تشكلت مؤسسات التعليم العالي ومراكز البحث الجامعية والى اليوم امسكت الدولة بزمام ادارتها ورسم سياساتها وتقرير مصيرها وانفقت عليها من المال العام، وهي واعية ان البحث العلمي والتقني لهما اهمية كبرى في استراتيجيتنا الوطنية التنموية، واصبح هذا الوعي مترجما تدريجيا على ارض الواقع من خلال تغييرات مهمة عرفها البحث العلمي الوطني على مستوى تنظيمه وتمويله، وهكذا بدلت مجهودات كبيرة فيما يخص ادارة وتسيير وهيكلة وتمويل وتجهيز وتوجيه وتخطيط البحث العلمي والتقني، وكذلك فيما يخص ملاءمته مع حاجياتنا الاجتماعية والاقتصادية من قبيل تقوية تقارب البحث العلمي العمومي من عالم المقاولة.
ورغم هذه الجهود التي بدلت تنظيميا واداريا وتشريعيا وماليا فان المغرب مدعو الى الاستثمار بشكل متزايد في مجال البحث العلمي، اولا لإيجاد الحلول العاجلة للمشكلات الخاصة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية والانسانية من قبيل ندرة المياه، والتصحر، والاستغلال المفرط للموارد الطبيعية، وانتشار الاوبئة والامراض المزمنة .. وثانيا لمواجهة تحديات العولمة بجميع تلويناها (ظهور مجتمعات تكنولوجية عالمية مهيمنة وكاسحة..)
ان المجهودات التي بدلت من طرف السلطات الحكومية المكلفة بالبحث العلمي لم تمكن من بروز نظام وطني حقيقي للبحث كرافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ولرفاهية وجودة حياة المواطنين كما لم تتمكن من بناء نظام وطني فعال للبحث العلمي.(المنتدى الوطني للاصلاح)
ان المغرب يتوفر على طاقات كبيرة في مجال البحث العلمي تشتغل في جامعاتنا الوطنية، وفي مختبراتها البحثية، اوفي مراكز وطنية للبحث العلمي والتقني، وفي معاهد علمية ومعاهد الدراسات والابحاث، و في الاكاديميات العلمية كأكاديمية الحسن الثاني للعلوم والتقنيات، او غيرها من المؤسسات العلمية والبحثية، يجب ان تعطى لها فرصة ثمينة لتجدير البحث في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي تحقيق الامن الصحي، فالأوراش الكبرى التي فتحت في البلد( الطاقات المتجددة – الاكتفاء الغذائي – الاقلاع الصناعي - ..) تكتسي اهمية بالغة لتشييد نظام وطني للبحث من الضروري متابعتها وتوسيعها، وحان الوقت لنعطي للبحث العلمي دورا ذاتيا من خلال سن سياسة علمية وطنية، والكف عن اعتباره كمنتوج ثانوي للتعليم العالي، او كأحد عناصر المناولة للعلم العالمي، لأنه ان الاوان بالاعتراف بالبحث كوظيفة وبالارتقاء به ليصبح نظاما وطنيا.
ان البحث العلمي في مجتمعنا وجامعاتنا يمر بظروف صعبة، وربما ذلك راجع الى قلة الوعي بالبحث العلمي ، فمنا من لا يشعر انه في حاجة الى البحث العلمي ...وكان البحث العلمي ليس في ازمة فقط، وانما جوهر المشكل من الناحية الواقعية انه ليس هناك من هو في حاجة اليه؟؟؟
فلماذا البحث العلمي متعثر او في ازمة؟ واين تنبع ازمات هذا البحث؟
1- عدم ( هيكلة قطاع البحث العلمي والتقني وتنظيمه، بما يوفر التنسيق الامثل بين وحداته، ويؤسس للحكامة المسؤولة لمختلف مكوناته، ويضمن ترشيد الموارد ويرفع من الانجازية والمردودية)
الرؤية الاستراتيجية – المادة 88
ان المشكل الاول ينبع من التشريع، ونقصد بذلك القوانين والاجراءات الادارية التي يجب ان يكون فيها الحرص على تحقيق الاهداف المنشودة من تطوير البحث العلمي والارتقاء به لمواجهة التحديات وبناء السياسات الوطنية في مجال التنمية الشاملة، وليس فقط الحرص على التقيد بالنصوص القانونية، فالمهم ما ينتجه الباحث وليس ما ينبغي ان يتقيد به.
2- ضعف مستوى التمويل، حيث ان ميزانية الدولة المخصصة للبحث العلمي غير كافية، وغير منتظمة، وغير منتجة للقيمات المضافة وللثروات، اذ لا يمكن لميزانية تسيير المؤسسات الجامعية والتي تخصص نسبا مئوية ضعيفة للبحث العلمي ان تبني نظاما وطنيا للبحث، اوان تساهم في النهوض بثقافة علمية رائدة. فهل يعقل ان بعض عقود البحث تأتي نتيجة مبادرات شخصية للأساتذة الباحثين وبتمويل خاص ؟؟. منذ عقود وقادة المجتمع العلمي يطالبون برفع النسبة المخصصة للبحث العلمي والتربوي من الناتج الداخلي الخام الى 1%، وكان هذا المطلب حاضرا في وثيقة الميثاق الوطني للتربية والتكوين لكنه لم يفعل، وجاء مشروع الرؤية الاستراتيجية ليرفع " حسابيا " من هذه النسبة حين دعا الى (الرفع التدريجي من نسبة الناتج الداخلي الخام المخصصة لتمويل البحث العلمي لكي ترقى الى نسبة 1% في المدى القريب،و1.5% في 2025 و2%في 2030،مع التوجه نحو تنويع مصادر تمويل البحث بمؤسسات التعليم العالي) المادة 88 – الفقرة ب
كما ان عدم وجود استقلالية مالية لمراكز البحوث يعني ان الجهة المركزية التي تمول البحث هي التي تفرض شروط الصرف وقواعد العمل والطريقة التي تراها مناسبة لإنجاز المهام ولهذا فان عملية البحث لا يمكن ان يكون لها معنى اذا لم تكن مراكز البحوث مدعومة من الجهات الممولة للبحث.
3- مشكل الخلط بين البحث العلمي في مجال العلوم الطبية وعلم الاحياء والرياضيات والهندسة من جهة والعلوم الانسانية بصفة عامة من جهة اخرى حيث هنا فرق شاسع بين مكونات وطرق البحث في مجال العلوم الطبيعية والعلوم الانسانية، فاذا كانت الاولى تحتاج الى مختبرات لفحص العينات واجراء التجارب فان العلوم الانسانية تحتاج الى مراكز ابحاث لفحص وتحليل الوثائق وتحديد السلوك الانساني كما تحتاج الى وثائق ومعلومات وحقائق ميدانية اكثر مما تتطلب مواد كيماوية او اجهزة دقيقة.
كما انه لا يجب تفضيل البحث التطبيقي على البحث النظري، وان افتراض التناقض بين البحثين هو افتراض خاطئ، فلا بحث تطبيقي اذا لم يرفق ببحث نظري، بل اننا نطلب البحث حتى ولو كان دون هدف تطبيقي ظاهر لأننا نعتبره انمائيا بذاته، ولأنه يساهم في خلق مناخ البحث ويوفر النبع الذي يغرف منه الباحثون التطبيقيون .
4- عدم وجود ميزانيات كافية لنشر المجلات العلمية، وعدم وجود مجلات علمية متخصصة ورائدة تصدر بانتظام مما يجعل باب الشهرة العلمية مغلقا في وجه الباحثين والدارسين والمبدعين فيضطرون للتوجه نحو المجلات العلمية في الخارج لنشر ابحاثهم ودراساتهم فتعطى لهم هناك الفرص المغرية لنشر انتاجهم العلمي ونفس الملاحظة يمكن قولها بالنسبة للحصول على المعلومات الحديثة والنظريات المستجدة في مجال اي تخصص حين يضطر باحثونا الى الاطلاع عليها في المجلات والدوريات التي تصدر في الخارج ...ان قلة العناية بنشر المعرفة العلمية والتعريف بالإنجازات العلمية والمعرفية للباحثين المغاربة يزيد من تقوقعنا وقحطنا العلمي.
5- غياب هيكلة وتنظيم مؤسساتي يقوي العلاقة بين مراكز البحث المنتمية للقطاع العمومي او الحكومي وتلك المتواجدة في القطاعين الخاص والشبه العمومي لخلق اليات واشكال محفزة للشراكة والتكامل ، وليس التحفيز الضريبي للمقاولات التي تنتج ابحاثا ذات اهمية اقتصادية واجتماعية كما جاء في وثيقة الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 25ـ30 ( المادة 88- الفقرة ب)
6- عدم وجود توازن بين مهام التدريس، ومهام الاشراف على البحوث العلمية، وهذا لا يعني الدعوة الى تفرغ الاستاذ الجامعي لينصرف من التدريس الى البحث العلمي سعيا الى تقدمه الوظيفي وزيادة راتبه، وهذا ما قد يعطي صورة مبخسة عن التدريس الجامعي وكأنها وظيفة هامشية؟ ليس هذا قصدنا، وانما علينا النظر الى الاستاذ الجامعي و التدريس الجامعي كمسؤولية ووظيفة انمائية تساعد على نشر المعرفة والوعي العلمي، وفي نفس الان تناط به مسؤولية الابحاث التي تعد الاداة الرئيسية لإثراء المعرفة وتقدمها.
انهم اساتذة و مؤطرون، مفكرون و باحثون، مجال عملهم اثراء المعرفة وادارة العمل الاكاديمي والبحث العلمي.
بدون هاتين الوظيفين المتلازمتين والمتكاملتين، قد يتحول الاستاذ الجامعي الى موظف اجير يؤدي وظيفة اعتيادية داخل المدرج او في المختبر الجامعي، فينصرف الى "النضال النقابي " مما يسهل على السلطة القائمة امر التحكم في نخبة المجتمع ..فيتدنى الاداء الاكاديمي للجامعة، ويسود المفهوم التقليدي والنمطي للأبحاث فنسارع بعد ذلك الى الخبرة الاجنبية نطلب مشورتها وكان بلدنا خالية من الكفاءات المؤهلة و جامعاتنا تبقى سوقا استهلاكية للأبحاث الاجنبية ..
لابد من اعادة تقييم الوضع للتخلص من المشاكل التي اتينا على ذكر بعضها والتي حولت مراكز الابحاث الى مكاتب للتسجيل والتوثيق وحولت الجامعات الى مؤسسات للتوظيف.
لابد من اعطاء الاولوية للجامعات والمعاهد العليا حتى تساهم في جعل نواتج كل العلوم منافع حقيقية مشتركة تساهم في تحقيق التنمية المستدامة لمجتمعنا، وهذا ما لا يتأتى الا بعد حصول تغيير في عقلية الجامعات وسياساتها التي يجب ان تركز اساسا على تعظيم اسهاماتها على الصعيد العلمي، وحجم المعارف التي تحشدها هذه الجامعات لطلابها واطرها و مؤطريها وباحثيها وقادتها من رواد الفكر والعلم.
لابد من توسيع نطاق التمويل الحكومي، والتمويل الخاص للبحوث العلمية، فنحن بحاجة ماسة الى الأبحاث الاساسية والتطبيقية التي تجريها الجامعات الوطنية، غير ان الصعوبات التي تواجه القيام بإجراء مثل هذه الابحاث كبيرة للغاية، ولضمان نجاح هذه الابحاث العلمية يجب ان تمنح هذه الجامعات الدعم المادي وان يتوافر لديها التسهيلات المناسبة، وان تتمتع بقدر كاف من الحرية الاكاديمية.
هذه الاجراءات والتوصيات ملحة واستعجالية لأن القرن الحالي هو قرن لتسابق جنوني نحو انتاج المعارف، الشيء الذي يحتم على بلدنا ايلاء اهمية كبرى للبحث العلمي والتقني في استراتيجياتها الوطنية التنموية، وارتباطا بما سبق جاء الميثاق الوطني للتربية والتكوين وخصص الدعامة الحادية عشرة "لتشجيع التفوق والتجديد والبحث العلمي"، تم تلاه مشروع الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015- 2030 وخصص حيزا لهذا الجانب في الرافعة الرابعة عشرة تحت عنوان "النهوض بالبحث العلمي والتقني والابتكار" واهم ما جاء في هاتين الوثيقتين المؤطرتين في باب تشجيع الابتكار والبحث العلمي :
- توجيه البحث العلمي والتكنولوجي نحو البحث التطبيقي والتحكم في التكنولوجيات وملاءمتها مع دعم الابداع فيها – الفقرة 125
- اخضاع البحث العلمي والتقني لنمطين من التقويم، داخلي وخارجي – الفقرة 127
- الرفع التدريجي من الامكانات العمومية والخاصة المرصودة للبحث العلمي والتقني – الفقرة 128
- تطوير ثقافة المقاولة والتدبير والابداع في مؤسسات البحث والتكوين ..وتشجيع البحث التنموي والنهوض بمستواه – الفقرة 129
- تشجيع محاضن للمقاولات المبدعة داخل بعض مؤسسات البحث والتكوين والتي من شانها تمكين الطلبة والباحثين انشاء مقاولات بناء على نتائج ابحاثهم – الفقرة130
صحيح ان الميثاق الوطني للتربية والتكوين قد اكد على ضرورة وجود سياسة حكومية واضحة المعالم والاهداف، سياسة تتأسس على تخطيط يحدد الاولويات ويرصد الوسائل اللازمة ويرتكز على اليات التقويم والتثمين، كما طرحت الوثيقة ضرورة التنسيق والتكامل بين التعليم العالي ومؤسساته العمومية والقطاع الخاص من منظور برنامج وطني للبحث العلمي والتربوي، وهي نفس الاقتراحات التي اعيد عرضها في الرؤية الاستراتيجية، هادفة الى (تطوير البحث العلمي والارتقاء بإنجازاته بغاية مواجهة التحديات التي تعرقل السياسات الوطنية في هذا المجال ورفع الرهانات المجتمعية والدولية) الفقرة88
لكن الواضح ان مجتمعنا وجامعاتنا وحكوماتنا لم تتمكن بعد من تطوير هذا الجانب الذي اصبح من الركائز الاساسية لعمليات التنمية الحديثة ، وهي التنمية التي تحتاج الى استخدام العلم ووسائل وادوات التكنولوجيا المتطورة... والازمة الراهنة تدفعنا الى الاقتناع واليقين بضرورة تلبية الحاجة العاجلة الى تحسين تمويل ودعم البحث العلمي بجميع اصنافه من العلوم الدقيقة والعلوم الاساسية والعلوم الانسانية والاجتماعية بعد ان افضى هذا الفيروس اللعين الى ايجاد واقع اجتماعي جديد " لا يمكن اختزاله في البيانات الوبائية فقط" وانما عن طريق نشر ثقافة علمية تقوم على اعداد (مواطنين واعين ومسؤولين يشاركون في اتخاد القرارات بطريقة جماعية )، وبالعلم لا نمكن البشر من التفوق على الذات وانما ( يساعدهم العلم على جمع شملهم وتمكين من يتخلف منهم عن الركب من اللحاق به )، وهذه رسالة وجهتها مديرة اليونيسكو اثناء الاحتفال باليوم العالمي للعلوم من اجل السلام والتنمية، وفيها اشارت الى ابتلاء مجتمعاتنا بجائحة فيروس كورونا المستجد مما يتطلب ان نضع نصب اعيننا دور العلم والعلماء في المجتمعات المستدامة، وحاجتنا الى تثقيف المواطنين واشراكهم في العلوم، مع إظهار اهمية العلم في معايش العامة بعد ان أحدثت جائحة فيروس كورونا المستجد التي اصابت العالم بحالة من الشلل وحولت دوله الى جزر من منعزلة، انها تدعونا الى ان نحول هذا التحدي الى امكانية لبناء مستقبل افضل بفضل البحث العلمي الذي هو ضرورة مجتمعية وانسانية ملحة، الى درجة انه اصبح في اعلى مرتبة في سلم الامن الانساني
اذن لأجل الاستمرار في الحياة لابد من تقوية المؤسسات العلمية الجامعية وغير الجامعية العمومية والخاصة، وزيادة قدراتها المادية والبشرية، و دعم وتقوية وتمويل انشطة البحث العلمي لأجل نشر الوعي العلمي بين جميع فئات المجتمع، واعادة استقطاب الادمغة العلمية التي هاجرت الى الخارج وتشجيعها على الخلق والابداع.
ان وجودنا واستمرار حياتنا تبقى موضوع تهديد، فالأمل بعد الله تعالى في العلم والابتكار العلمي قصد تحسين جميع جوانب الحياة. شرط مزاولة هذا العلم في اطار اخلاقي وانساني مشترك .