وقف أمام أبيه، تلاسنا وعلا صوتاهما حتى كادا يتشابكان، نعت أباه بالخاسر، ضيع ما تبقى، دفعه الأب بيده. كلب عاق. حجزت «فاطنة» بينهما.
ما له وللتجارة، ليس تاجرا. عشرون عاما على رأس العمل مديرا في التربية والتعليم، ولا يزال يحن إلى التدريس. يدخل الحصص الفارغة بديلا عن مرؤسيه الغائبين. يحرص على وضع حصتين ثلاث حصص له في الجدول مخالفا اللائحة. الآن خسرنا كل شيء.
اذهب الآن…صرفت «فاطنة» الأب.
وأنت؛ صفِ هذه التجارة، أعط للناس ما تبقى من سيولة وبضاعة، واطلب منهم مهلة عام للسداد. تفرج بعد عام. ولا تتورط أنت الآخر أبدا بتجارة، لم تخلق لذلك. كن هادئا وأنت تتعامل معهم لا تحتد كالعادة. شرايين القلب تتمزق حين نصيح. يضحك. تعجز كتب الطب القديمة والحديثة عن إقناعها بهراء معلوماتها عن الطب.
اذهب.
سماء فبراير المكفهرة ألقت ماءها كحبلى جاءها المخاض على غرة، كحلم كابوسي كانت تمطر.. أوحلت الأرض وأخرجت أطيانها، سدت الطرق تحت وطأة السيل النازل، انقطعت به وبإخوته السبل، خوّض في الطين والوحل والظلام عبر الغيطان والمدقات. لعن أجداده والتجار والآتي والماضي. رفض أحدهم بأدب القرود التسويف وأمهله شهرا واحدا فقط للسداد، لأن أمريكا ستجتاح العراق، وسيلقنها صدام درسا لن تنساه، وعما قليل ستفلس المنطقة بالكامل، تحامل على أعصابه وهو يسمع هذا الهراء، ظن أن الرجل سكران، من يظن نفسه؟ صاحب شركة كونية عابرة للقارات؟ ماذا ستقول «فاطنة»؟ بالتأكيد ستخلع قرطها الذهبي الثقيل المشغول، والخلخال الفضة من قدمها ونخلص من هذا العبث. تحت وطأة السيل النازل، وقع على وجهه في ظلام المغربية الدامس، تلطخت ملابسه بالطين، تشبث بالعشب النابت فوقع مرة أخرى. قام وكبا، أمسكه أخاه فهب واقفا، بالتأكيد هذا كابوس. شيء ما ولد بصدره، جثا كمارد وأقعى أمامه.. هناك مصيبة ستحدث، كالوطاويط يتنبأ رجال هذه العائلة بالكوارث.
يسترها الله.
٭ ٭ ٭
في عتمة العشاء، والكهرباء المعطلة بفعل المطر، لمح في باحة البيت نسوة العائلة مجتمعات.
ماذا حدث؟
دخلت للوضوء فشعرت بدوخة.. فأكملت وضوءها وجلست كعادتها، تمددت ودعتهم للتحلق حولها. أخبرتهم بهدوء أنها سترحل الآن، تمتمت وأرخت رأسها وعبرت دون خوف.
ماتت «فاطنة»
أسكت الأب النسوة النائحات، فصمتن.
أمرهم هو بالصياح فعلا صوتهن، «فاطنة» لا تموت صامتة أملأوا الأرض نواحا.
في غبشة الصباح أمره الأب بالذهاب إلى «سعدي» لفتح المضيفة والقبر، تحت شباك بيته كاد يقع في بركة الوحل. يأتي صوته الخشن النائم المرخي بفعل الدفء؛ من؟
«ستي» ماتت. لم يكن بحاجة إلى قول المزيد، يعرف «السعدي» ما يجب فعله.
رفض أبوك الاشتراك بالمضيفة.. نفتحها فقط كرامة لسيدك والحاجة «فاطنة».
٭ ٭ ٭
تضحك فاطنة من عصبيته المفتعلة، يقسم بالطلاق مئة مرة باليوم، على لؤم الناس، وأنه لم يعد لديه صبر، يلوح بسكينه ويغمدها في الهواء، دهرا طويلا يلوح بها مهددا، ولم تذرف قطرة دم واحدة من آدمي. في هيئة صبي قهوة مسالم أكثر منه جزارا يذبح البهائم، نحيلا طويلا ضامرا ببياض لوحته الشمس.
تربت «فاطنة» على ظهره بحدب.
تعدّل زوجته طرحتها الساقطة دائما عن رأسها وتحكمها على جسدها الضخم، وتعنفه على أيمان الطلاق التي لا يكف عنها. تشير «فاطنة» بيدها مشوحه لها بالصمت،
غلبان، ليس له طلاق. يأتي صوتها من خلف شيش الشباك؛ الله يرحمك يا حاجة فاطنة.
٭ ٭ ٭
ساعة واحدة جهز «سَعدي» المضيفة، وفتح القبر، وأشعل النار في المواقد. كرامة لجدك فقط ولعظام القبر، أوصاني وهو يحتضر، دكانه هذا بركة في الناحية.. بركة القرآن فيه، من لمس منه حجرا ذبحته. حين سقط تحت وطأة الضغط والسكر حمله حتى باب الدار، رفع عنه عكازة وأخذ سبحته واحتفظ بها كتذكار. في الصباح خلع جلبابه ووقف بالصديري والسروال يشرف على تكفينه. رفض أن تلامس رأسه الخشبة، ووضع يده تحتها كوسادة. أتى المغسل من الناحية القديمة بوجه خال من أي تعبير، أمر بتدفئة الماء. نظر إلى الجسد المسجى أمامه:
مالك يا «علي» زعلان؟
طيب هتقعد أكتر من كده تعمل إيه فيها؟
أيوه كده يا راجل، أضحك، وسلم على أبويا.
باسم الله. صبوا الماء.
لا يعرف «سعدي» المجاز، أخذ الوصية كتفويض، وصار يلازم الدكان كمقام، يأتي إلى «فاطنة» قاص رؤى يأتيه فيها الحاج «علي» ناهيا وآمرا فتضحك، يقسم بأغلظ الأيمان فتزاد ضحكا حتى الشَرَقْ. في المرة الأخيرة قص عليها رؤياه.. رأيته حائرا يبكي تحت حائط المسجد القديم وكلما ناديته لا يجيب. علت وجهها غبرة، نهار أسود يا «سعدي» المنام نفسه. مات «السعدي» بعدها بسنوات.. رحل فجأة.. سب الدين لزوجته، وأخبرها أن اليوم أزرق، قبل أن تكمل تسخين الخبز البائت تمدد على سريره ومات.
٭ ٭ ٭
في مثل هذه الظروف لا يأتي المشيعون ولهم أعذارهم، في الصباح أتت النسوة متشحات بالسواد، أتت صديقاتها تفترسهن أمراض الشيخوخة، بكين بصدق. عجّ البيت بالأقارب من السفر البعيد والقريب. ضج الشارع بالرجال وأخرجت البلد حشودها. آخر رحيل فرعوني. سماء ممطرة، ومحاريث تتقدم النعش تكسح الطين والمياه الراكدة. وسماء تبكي، ونسوة يرمقن المشهد من بعيد. كورال من قراء وفقراء يتلون سورة ياسين بنغمة رتيبة حزينة.
لم يبك.
حين دخلت قبرها، وحين كان الملقن يغششها إجابات العبور حتى لا ينهش الصقر قلبها، وحتى تعبر نهر الأفاعي بأمان.
رفع يديه عاليا ملوحا لها بالسلامة.
سأغادر؛ لا مقام لي هنا بعد الآن.
أدار ظهره وولى.. فيما شعر بها تبتسم.
كاتب وإعلامي مصري