سأحاول في هذا المقال التوقف عند مشروعي القانونين
التنظيمين اللذين تحضِّرهما الحكومة للمصادقة عليهما في المجلسين الحكومي والوزاري
استعداداً لاعتمادهما
بوصفهما نصين تشريعيين ملزمين بعد نشرهما في الجريدة الرسمية.
وسأتناول في المقالة أبرز الإشكاليات المعروضة والتي منها إشكالية المقاربة التشاركية
التي تدعيها الحكومة، أو رئيس الحكومة على الأصح، وإشكالية اللغة الرسمية كما تمّ تعريفها
في أحد هذين المشروعين، وإشكالية حرف تيفيناغ، وإشكالية اللغة القانونية المستعملة
لإلزام "الدولة" بتنزيل تفعيل الترسيم، وإشكالية اللغة الأمازيغية من خلال
تبيُّن موقعها داخل كل من المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي والمجلس الوطني
للغات والثقافة المغربية، ثم أخيراً إشكالية مؤسسة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية
ووضعيتها القانونية والمهام الجديدة المنوطة إليها.
1. المقاربة التشاركية
ادّعى محرِّرُ مشروع القانون التنظيمي الذي سيحدّد
مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية أنه أعدَّ هذا المشروع "وفق مقاربة تشاركية"
أُخذ فيه بعين الاعتبار:
مذكِّرات واقتراحات الفاعلين والمهتمين؛
المذكرات التي سبق التوصُّل بها من بعض المؤسسات
العمومية والمجتمع المدني؛
بعض التجارب الدولية التي تمّ الاستئناسُ بها في
مجال ترسيم اللغات.
ولكن المتتبعُ لمجريات الإعداد لهذا المشروع سيلاحظ
- للأسف- أن ما يدّعيه المحرّرُ لا أساس له من الصحة؛ وذلك لـ:
أن كل "الفاعلين والمهتمين" الحقيقيين قاطعوا الحكومة التي
أهانت الأمازيغية بإطلاقها لعنوان إلكتروني تُطالبُ فيه المجتمع المدني والسياسي بإرسال
المذكرات والمقترحات دون أن تُحدّد لهم جهة رسمية معروفة تُرسَلُ إليها تلكم المذكرات
والمقترحات؛
أن محرّر مشروع القانون لم يتوصل إلا بمذكرات ومقترحات "المجتمع
المدني والمؤسسات العمومية" التابعة لحزب العدالة والتنمية الذي أقسمَ إلا أن
يتراجع عن كل ما قرّره الملك ويُعيد الأمازيغية إلى وضعية ما قبل 2001؛ وأما بالنسبة
للمجتمع المدني الحقيقي فإنه لم يسبق له أن قدم أي مقترح أو مذكرة؛ وكل ما في الأمر
أن المحرّر استولى على نصوص ومذكرات تمّ إنتاجها في سياقات ترافعية خاصة واستعملها
بخبث بهدف إضفاء الشرعية على "مشروع جريمة" بصدد التحضير لها بكل دقّة؛ ولذلك
فإن الهيئات الأمازيغية التي ادّعى أنه توصّل بمذكراتها ومقترحاتها أنكرت عبر بياناتها
بشدة أن تكون أرسلت نصاً عبر البريد الإكتروني المعلوم، بله واستنكرت أن يتمّ استعمال
نصوصها ومذكراتها بشكل مُغرض؛
أن كل التجارب العالمية في مجال ترسيم اللغات التي استأنس بها المحرّر
لإنجاز مشروعه لا وجود لها إلا في مخيلة هذا الأخير؛ إذ أن هذه التجارب العالمية المدّعى
الاستئناس بها لا يمكن أبداً أن نجد لها مضموناً داخل نص مشروع القانون الذي تريد أن
تُمرره الحكومة؛ ويكفي في هذا الصدد القيام بمقارنة بسيطة بينه وبين النصوص – القوانين
التي اعتمدتها الحكومات في بلجيكا وسويسرا وإسبانيا وجنوب إفريقيا وكندا والباراكواي
إلخ. لنتأكد جميعاً أنه لا مقارنة بين ما لا يمكن أن يُقارَن، وأن الذين أعدوا هذا
المشروع إنما أرادوا به العودة بالأمازيغية إلى وضعيتها قبل سنة 2000.
نخلُص من كل هذا أن الحكومة، (أو إن شئنا الدقة
حزب العدالة والتنمية)، قد قررت لوحدها أن تخرج مشروع القانون دون أن تأخذ بعين الاعتبار
رأي أي أحد. وبذلك فهي تكون قد كذبت علينا مرتين:
المرة الأولى: عندما ادعت في مخططيها الحكومي والتشريعي
أنها ستُشركُ المجتمع المدني والسياسي في إنتاج نص القانون ولم تفعل؛ فلا هي أشركت
المجتمع ولا هي أشركت المؤسسة الرسمية التي أنشأها الملك لكي تضطلع بالمهام الأساسية
لتنمية وتطوير الأمازيغية؛
المرة الثانية: عندما ادعت في المذكرة التقديمية
لمشروع القانون التنظيمي لتفعيل ترسيم الأمازيغية أنها أعدت المشروع "وفق مقاربة
تشاركية".
وللتذكير فإن نفس السيناريو حاولت أن تلعبه الحكومة
مع مشروع القانون التنظيمي للمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية عندما كلفت، منذ
أكثر من سنتين، وزارة الثقافة بإعداده في سرّية تامة ثم تهريبه إلى القصر الملكي. ولولا
تدخّل هذا الأخير وموافقته على تكوين اللجنة الملكية المعلومة والتي أنجزت لنا النسخة
الثانية من المشروع لكنّا أمام نص قانوني أقل ما يمكن أن نقوله عنه هو أنه نص يفتقد
إلى روح الدستور.
2- اللغة الأمازيغية – "التعبيرات"
يُقدمُ المحرِّرُ في الباب الأول / أحكام عامة
(المادة الأولى) من مشروع القانون التنظيمي لتفعيل ترسيم اللغة الأمازيغية تعريفاً
لهذه الأخيرة بالصيغة التالية :
"يقصد باللغة الأمازيغية في مدلول هذا القانون
التنظيمي مختلف التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة بمختلف مناطق المغرب، وكذا
المنتوج اللسني والمعجمي الأمازيغي الصادر عن المؤسسات والهيئات المختصة".
إن الأخطر في هذا التعريف الذي لا نجد له أي مرجعية
لدى اللسانيين المختصين ليس فقط في كونه يعود بنا إلى إشكالية اللهجات التي تجاوزها
الدستور بشكل واضح وحاسم عندما اعتبر اللغة الأمازيغية لغة رسمية للدولة وجعل من مهام
المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية الاهتمام بجميع المظاهر الثقافية واللغوية المغربية،
بل إن الخطورة تكمن في كونه لا يعطي أي وضع أو وضعية قانونية للغة الأمازيغية المعيار
التي اشتغل عليها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية منذ 2003، وراكم فيها منتوجاً علمياً
وأكاديمياً لم يسبق أن تمّ إنتاجه في تاريخ الأمازيغية. وبغض النظر، هنا، عن التهافت
الواضح الذي يتميزُ به هذا التعريف على المستوى العلمي، فإنه، للأسف، يختزل الأمازيغية
في تعريف لا مضمون له في المراجع الأكاديمية لعلماء اللسان بمختلف أطيافهم، كما أنه
يختزل مفهوم اللغة في "مدلول قانون تنظيمي" يحدده في "التعبيرات اللسانية
الأمازيغية" التي يجب مراعاتها في التدريس.
ونحن بعودتنا إلى المادة الثامنة من المشروع نقرأ
ما يلي:
"يُراعى في إعداد المناهج والبرامج والمقررات
الدراسية الخاصة بتدريس اللغة الأمازيغية مختلف التعابير اللسانية الأمازيغية المتداولة
في مختلف مناطق المغرب"؛
هكذا إذن يكون محرر المشروع قد حدد لنا ما يجبُ
مراعاته في استعمال هذه اللغة التي هي "التعبيرات اللسانية"؛ إذ ما دامت
اللغة الأمازيغية المنصوص عليها في الدستور لا وجود لها في المشروع المُقدّم إلا بوصفها،
تعريفاً وقانوناً "مختلف التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة بمختلف مناطق
المغرب"، فإن هذا يستتبعُ بالضرورة أن تُدرّس هذه التعابيرُ اللسانية باعتبارها
المضمون القانوني للغة الأمازيغية؛ أي بـ "العربية تاعرابت" أن تُدرّسَ اللهجات"
أو على الأقل أن تَقذف بالمؤسسات وبالمجتمع المدني في أتون نقاش – فتنة قد يستمرّ لسنوات
أخرى دون نتيجة. وهي الغاية التي يريد أن يصل إليها المحرّر.
وفي نفس الاتجاه سنلاحظ أن عقل المحرر سينكص بشكل
واع أو لا واعٍ إلى مفهوم الاستئناس الذي ورد في نص الميثاق الذي تم إنتاجه قبل أكثر
من 14 سنة في عهد المرحوم مزيان بلفقيه، أي قبل إلقاء خطاب أجدير وقبل إصدار الظهير
المحدث والمنظم للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية؛ فقد جاء في المادة الخامسة من مشروع
القانون التنظيمي ما يلي:
"مراعاة للخصوصيات الجهوية، يمكن اعتماد
التعبيرات اللسانية الأمازيغية المتداولة في بعض المناطق بجهات المملكة، إلى جانب اللغة
العربية، لتيسير تدريس بعض المواد التعليمية في مسلك التعليم الأساسي بالمؤسسات التعليمية
الموجودة بهذه المناطق"؛
وبطبيعة الحال، فإنّ هذا المفهوم للغة المختزلة
في "مدلول قانون" "التعابير اللسانية الأمازيغية"ّ سيمتدّ بشكل
آلي ليشمل كل المجالات الأخرى سواء تعلق الأمر بالتعليم كما قُدِّم أو بالإعلام والاتصال
أو بغيرها؛ فمفردة اللغة الأمازيغية التي تتكرر في ثنايا المواد ليست إلا "التعبيرات"
التي يجبُ تفعيل ترسيمها.
وأما عند قراءتنا لمشروع القانون التنظيمي الخاص
بـ"المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية" فسنلاحظ أن محرر القانون تجنب
بشكل ممنهج استعمال اللغة الأمازيغية المعيار أو الأمازيغية الموحدة على غرار التعابير
التي استعملها وهو يتحدث، مثلاً، عن اللغة العربية؛ فبالنسبة إليه أن من اختصاصات المعهد
في حُلته القانونية الجديدة هي "تجميع وتدوين مختلف تعابير اللغة والثقافة الأمازيغية"؛
و"القيام ببحوث وبدراسات في اللغة والثقافة الأمازيغيتين" إلخ. في حين اعتبر
أن من مهام أكاديمية محمد السادس "الإسهام في مجهود توحيد المصطلحات العربية"؛
و"السهر على تطوير النظام النحوي والمعجمي والتوليدي للغة العربية"؛ و"وضع
معاجم لغوية عصرية عامة ومعاجم متخصصة رهن إشارة المستعملين"؛ إننا في الحالة
الأخيرة نشعر أن المشرع يشرعُ لمعيرة اللغة العربية و"توحيدها"، في حين أن
الإحساس الذي ينتابُنا ونحن نقرأ مهام المعهد الملكي هو أن المشرع يشرع لما سُمي في
مشروع القانون التنظيمي الأول بالتعبيرات اللسانية الأمازيغية. ولذلك فإن مهامّه الأساسية
ليست معيرة اللغة الأمازيغية وتوحيد مصطلحاتها ووضع معاجم عصرية وتطوير النظام النحوي
والمعجمي لها إلخ بهدف تدريسها واستعمالها في مختلف مرافق الدولة، ولكن القيام بدراسات
سيُحدد المجلس نوعيَتها بعد المصادقة عليها؛ وشتان بين التشريعين.
3- حرف تيفيناغ المغدور
لم ترد في مشروع القانون التنظيمي لتفعيل الطابع
الرسمي للغة الأمازيغية أي إشارة إلى حرف تيفيناغ، وهذا بالرغم من أن النص يتحدث عن
إمكانية استعمال اللغة الأمازيغية في الوثائق الرسمية والأوراق النقدية والطوابع البريدية
وأختام الإدارات العمومية ووسائل النقل إلخ. والسؤال المطروح هنا لماذا لم يؤكد النص
على أن هذه الكتابة ستكون بحرف تيفيناغ؟ هل يعبر هذا السكوت عن تراجع عمّا قرّره جلالة
الملك بمباركة 32 حزب سياسي وكل أطياف الحركة الثقافية الأمازيغية التي أرسلت إلى القصر
رسالة شكر وامتنان على القرار المتبصر؟ إنّ هذا التراجع لو تحقق لن يُزعزع فقط ثقة
المواطنين بالقرارات التي يُقررها ويصادق عليها الملك، بل سيفتحُ المجتمع على المجهول.
إذ بأي حق سيقرر الحزب الحاكم أن يفرض قراره على كل التيارات والأحزاب السياسية والأطياف
الأمازيغية؟ أنه بعودتنا إلى مشروع القانون التنظيمي للمجلس الوطني للغات والثقافة
المغربية سنجد ذلك الجواب الخطير؛ ذلك لأن هذا المشروع يؤكد في المادة 14 أن من مهام
المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في حُلته الجديدة، ما يلي:
"دراسة التعابير الخطية الكفيلة بتسهيل تعليم
الأمازيغية".
ما ذا يعني هذا؟ هل هي عودة إلى ما قبل 2003، وتشطيبٌ
بصفة كلية عن كل القرارات والدراسات التي تم القيام بها في هذا المجال إلى حدود الآن؟؛
إن المطلوب من المؤسسة، إذن، ليس هو تدريس ونشر حرف تيفيناغ على أوسع نطاق، ولكن المطلوب
منها هو إعادة دراسة التعابير الخطية تماماً كما فعلنا منذ أكثر من 12 سنة، وذلك بهدف
البحث، مرة أخرى، عن الخط البديل والكفيل بتسهيل تعليم الأمازيغية؛ وبطبيعة الحال فإن
إعادة الدراسة تقتضي هنا بالضرورة إعادة الاختيار الذي يتّهمُ المحرّرُ من خلاله الملك
وبشكل مستبطن بكونه أخطأ في اختياره، وتلكم والله مصيبة كبرى.
مرة أخرى إذن يعود بنا مشروع القانون إلى الوراء.
فكما أنه ضرب بعرض الحائط كل المكتسبات التي تحققت على مستوى معيرة اللغة الأمازيغية
في مجال تهيئتها وتدريسها ها هو ذا مرّة أخرى ليعود كي يضرب مكتسب الحرف الذي توافق
عليه المجتمع وصادق عليه جلالة الملك وأرسل تهنئة إلى المجلس الإداري للمعهد يهنئه
على هذا الاختيار السليم. إنها الدعوة إلى الفتنة إذن.
4- اللغة القانونية غير الملزمة
استعملَ محرّر المشروع مفردات وتعابير ذات طابع
اختياري من حيث كونها لا تُحدد ولا تُلزم قانوناً أي جهة معيّنة في الدولة لكي تضطلع
بدورها في تنمية اللغة الأمازيغية وثقافتها؛ وهكذا فإن كل المفردات والعبارات المستعملة
فضفاضة وعمومية ولا تُقدم أي حلول إجرائية؛ إنها من قبيل: "تعملُ الدولة"،
"تسهر السلطة الحكومية"، "يتعين أن يتم تعميمها"، "مراعاة
الخصوصيات الجهوية"، "يمكن أن تُحدث مسالك"، "تُدمج اللغة الأمازيغية"،"
يُراعى مختلف التعابير اللسانية"، "تُراعى محتلف مكونات الثقافة"،
"يمكن استعمال اللغة الأمازيغية" "يتعيّن توفير الترجمة"،
"تعمل الإدارة على"، "كما يتم نشر"، "تسهر الدولة"،
"كما تعمل الدولة"، "يُراعى معيار استعمال اللغة"، "تُبثُّ
الخطب"، "يُراعى في تطبيق أحكام"، "تحرصُ الدولة"،
"تشجيعُ ودعم الإبداعات"، "تُشجع الدولةُ"، "تُكتب باللغة
الأمازيغية"، "تُدرج اللغة الأمازيغية"، "يتم توفير"،
"تكفل الدولة للمتقاضين"، "يحق للمتقاضين، بطلب منهم"، "يُعملً
بأحكام"، "تقوم القطاعات الوزارية"، "يُحدّد بنص تنظيمي"،
"يُعد تعليم اللغة الأمازيغية حقاً" إلخ.
ومن مميزات هذه التعابير أيضاً هي أنها بالإضافة
إلى كونها تتصف بعدم الإلزامية، فإن أغلب أفعالها إما مبنيةٌ للمجهول أو منسوبةُ إلى
فاعل غير محدد (الدولة، الإدارة إلخ)؛ أو أنها تعتبرُ الأمازيغية حقاً وليست واجباً،
إنْ طلبه المواطنون أُعطي لهم وإن لم يطلبوه مُنعوه. والإشكالية الخطيرة المطروحة هنا
هي من سنحاسبُ غداً إذا لم يتم تنزيل القانون التنظيمي للأمازيغية؟ هل سنحاسبُ الدولة؟
وما هي هذه الدولة؟ هل سنحاسبُ الإدارة؟ وما هي هذه الإدارة؟ هل سنحمّل المسؤولية للمواطن
الذي لم يطلب حقه؟ وماذا لو أن هذا المواطن لم يجد الحق حتى وإن طلبه؟
وإذا أضفنا إلى كل هذا أن مشروع القانون لا يني
يكرر استعمال تعبير "بكيفية متدرجة" أو "بالتدرج" عند كل فقرة
يوحي بها المشرع بإمكانية تفعيل ترسيم اللغة الأمازيغية، بل ولا يقدم أي آلية لتحقيق
هذا التفعيل، فسيتأكد لنا أن محرّر نص المشروع لم يكن يشغلهُ أبداً أمرُ تنزيل الدستور
باحترام تام لمواثيق حقوق الإنسان المنصوص عليها في التصدير، بقدر ما كان يشغله بالأساس
أمر تعطيل هذا الدستور بخرق المواثيق وتأجيل ترسيم اللغة الأمازيغية إلى تاريخ لاحق
ربما لن يأتي أبداً.
5- اللغة الأمازيغية ما بين المجلس الأعلى
للتربية والتكوين والبحث العلمي وبين المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية
في الوقت الذي كان فيه المجتمع المدني الأمازيغي
يعتقد أن المكتسبات المتحققة لا يمكن التراجع عنها وينتظر إنصافاً من القانون التنظيمي
لتفعيل ترسيم اللغة الأمازيغية، جاء هذا المشروع لكي يقضي على ما تبقى من أمل. ولا
يتجلى ذلك فقط في التراجع عن مفهوم اللغة الرسمية أو عن لغة المدرَسة المعيار كما تُدرّسُ
حالياً في المنظومة التربوية المغربية، ولا في التراجع عن حرف تيفيناغ ولا من خلال
تعويم القرارات التي لن ينفذها أحد كما أشرنا إلخ، ولكن أيضاً من خلال استعداء المجلس
الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي الذي كان أول مؤسسة تضرب في الصميم مكتسبات
اللغة الأمازيغية على مستوى تدريسها؛ إذ كما هو معلوم فإن هذا المجلس أخرج رؤية استراتيجية
تمتد ما بين 2015-2030 من عناصرها الأساسية ما يلي:
أولاً: تأجيل إدراج الاستعمال الكتابي لتعليم اللغة
الأمازيغية إلى ما بعد السنة الثانية من التعليم الابتدائي، والتركيز فقط على الكفايات
التواصلية في السنتين الأولى والثانية؛ أي بمعنى أن الأمازيغية التي دُرّست بحرفها
تيفيناغ منذ سنة 2003 إلى اليوم سوف لن تُدرّس بهذا الحرف في السنتين الأوليين على
الأقل (وذلك إن تمّ الإبقاء عليه من طرف الحكومة الحالية في قانونيْها التنظيميين المقترحين)؛
وهو ما حدا بالوزارة إلى أن توقف كل مشاريع تدريس الأمازيغية إلى حين خروج القانون
التنظيمي (وأي قانون !!!!)؛ وعلى رأس تلكم المشاريع رفضُها تنقيح منهاج اللغة الأمازيغية
على غرار منهاجي اللغة العربية واللغة الفرنسية إلخ.
ثانياً: عدم التنصيص على إلزامية اللغة الأمازيغية
في التعليم الإعدادي والتعليم التأهيلي كما وقع مع العربية والفرنسية والإنجليزية،
والاكتفاء فقط بإطلاق إمكانية تدريسها دون تحديد للكيفية ولا لأمداء (ج/ مدى) تحقيق
ذلك؛
ثالثاً: التنصيص على تدريس اللغة الأمازيغية في
مستويات التعليم الابتدائي بوصفها لغة مدرّسة وليس بوصفها لغة للتدريس (على الأقل بعض
الأنشطة المرتبطة بالشأن المحلي كما كان قد نص على ذلك المخطط الاستراتيجي لمؤسسة المعهد
سنة 2004)؛
رابعاً: اعتماد مقاربة تمييزية ضد الأمازيغية تتحدث
فقط عن الانتقال من ازدواجية لغوية تعتمد العربية + لغة أجنبية إلى تعدد لغوي قائم
على العربية + لغتين أجنبيتين أو أكثر، أي دون الحديث عن تعدد لغوي كامل تحضر فيه اللغة
الأمازيغية بوصفها لغة رسمية إلى جانب اللغات
الأخرى المقررة.
خامساً: تحديد الغاية النهائية من تدريس الأمازيغية
عند نهاية التعليم الثانوي التأهيلي (البكالوريا) في جعل المتعلم قادراً فقط على التواصل
(بترسيخ المقاربة الشفهية)، وليس التمكن من اللغة الأمازيغية على غرار اللغة العربية
(بالتركيز على الكفايات التواصلية بشقيها الشفوي والكتابي)؛
سادساً: عدم تحيين التعددية الثقافية في البرامج
الجهوية وفي مجزوءات التعليم المدرسي استناداً إلى علاقتها باللغة الأمازيغية التي
تعبر عن هذه الثقافة؛ ولذلك فإن الرؤية تركز على الثقافة بجعل الذهن ينصرفُ بشكل مباشر
إلى استعمال اللغة العربية التي سوف تقوم بالمهمة.
إن مؤسسةً مثل هذه غير مستقلّة ولا يوجد ضمن تشكيلتها
أي فاعل أمازيغي لا يمكن لها إلا أن تتخذَ المواقف المشار إليها؛ وعليه فإن المادة
4 من مشروع القانون التنظيمي لتفعيل ترسيم الأمازيغية التي تنص على أن السلطة الحكومية
المكلفة بالتربية والتكوين:
"تسهر بتنسيق مع المجلس الوطني للغات والثقافة
المغربية والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي على اتخاذ التدابير الكفيلة
بإدماج الأمازيغية بكيفية تدريجية في منظومة التربية والتكوين بالقطاعين العالم والخاص"،
لن تعمل إلا على ترسيخ وتثبيت قرارات هذا المجلس
الذي تراجع عن أهم المكتسبات المتحققة للأمازيغية، فأحرى أن يُنزّل روح الدستور.
6- المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية المُذاب
إن الأنكى في كل ما مرّ هو أن تغييب المعهد الملكي
للثقافة الأمازيغية وتذويبه داخل المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية سيجعل هذا
الأخير هو صاحب القرار الأخير في كل شيء. ونحن إذا عدنا إلى صلاحياته كما هي محددة
في مشروع القانون الذي ينظمه، فسنجد أنه هو الذي يبدي الرأي لصاحب الجلالة وللحكومة
ولأحد مجلسي النواب، وهو الذي يقترح التوجهات الاستراتيجية للسياسات اللغوية والثقافية،
وهو الذي يدْرس البرامج الكبرى اللازمة لتنفيذ التوجهات المذكورة، وهو الذي يقترح التدابير
اللازمة، وهو الذي يقدم التوصيات والمقترحات للحكومة من أجل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية
في مجالات التعليم والحياة العامة، وهو الذي ينجز الدراسات والأبحاث إلخ. بعبارة أخرى
إن هذا المجلس هو الذي سيقوم بكل شيء، وأما بالنسبة للمعهد فدوره الاستشاري والاقتراحي
والتوجيهي سينتهي، كما أن استقلاليته التي تمتع بها في إنجاز الدراسات وتسويقها ستنتهي
أيضاً؛ إن دوره سيقتصر فقط على صلاحيات ذات طابع تقني بالدرجة الأولى، أي تلك التي
يُنفذ من خلالها قرارات المجلس الوطني، سواء في جمع التراث والتعبيرات اللسانية أو
القيام بالدراسات أو في إعداد مشاريع الآراء والتوصيات والمقترحات إلخ. وبعبارة أخرى،
إن المعهد من الآن فصاعداً لن يكون من حقه، مثلا، أن يشتغل بحرية كما كان يفعل من قبل
على اللغة الأمازيغية المعيار ولا من حقه أن يشتغل على تطوير حرف تيفيناغ تكنولوجياً
كما ظل يفعل طيلة أكثر من عقد من الزمن إلخ. إن دوره الحقيقي والجديد هو أن يُنفذ قرار
المجلس الوطني للغات الذي يُنسق مع المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي؛
وهكذا فهو سيكون ملزما، مثلاً، بأن ينفذ قرار المجلس بالقيام بدراسة التعابير الخطية
من أجل إعادة النظر في حرف تيفيناغ واستبداله بالحرف العربي، ضارباً بذلك عرض الحائط
قرار جلالة الملك بالمصادقة عليه واعتماده حرفاً رسمياً للأمازيغية، بل ومتنصلاً من
قرار الاعتراف به دولياً من طرف المنظمة العالمية إيزو، ومن قرار إدراجه في كل الوسائل
التكنولوجية التي كان آخرها إدراجه في الونداوز 8 وفي الفايسبوك. تماماً كما أن على
هذه المؤسسة بحلتها الجديدة أن تُنفذ قرار المجلس الوطني في كل التدابير المتعلقة بإشكاليات
اللغة الأمازيغية التي ليست في عُرف مشروع القانون التنظيمي لتفعيل ترسميها سوى
"تعبيرات". ولأن المؤسسة تضطلعُ أيضاً بأدوار علمية أخرى في مجالات التاريخ
والأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا إلخ، من خلال مراكز البحث التي تتكون منها حالياً، فإنه
ما دام ليس هناك في مشروع القانون الجديد ما ينص على ذلك، فمعناه أن هذه المراكز ستغلق
أبوابها، لأن التاريخ والأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا التي نريدها إنما هي تلك التي
لا تُعرِّفنا بالأمازيغية ولا تبسط أمامنا تاريخاً آخر ومجتمعاً آخر؛ أليس المغرب بلدا
عربياً؟ لذلك فكما أننا سنغيرُ حرف تيفيناغ المزعج ونستبدله بالحرف العربي كي يبدو
لنا الفضاء البصري عربياً ومغرقاً في عروبته، سنقوم بنفس الشيء عندما سنغلق المراكز
المذكورة، ونؤكد أن المجتمع المغربي والتاريخ المغربي عربيان خالصان.
الخلاصة:
إن محرر مشروع القانونين يدعي أنه اعتمد مقاربة
تشاركية مع المجتمع المدني والمؤسسات العمومية؛ وهو في الواقع لم يقم بهذا العمل، بل
إنه على العكس من ذلك فرض رؤيته بشكل تحكمي على المجتمع مما يُنذر بفتنة وقانا الله
منها؛
إن محرر مشروع القانونين تراجع عن كل المكتسبات
المتحققة منذ إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وأعادنا إلى نقطة الصفر؛ فبعد
أن تجاوزنا إشكاليات اللغة وإشكاليات الحرف وأنتجنا ما لا يُحصى من الدراسات في هذا
المجال، وراكمنا العديد من المكتسبات على مستوى المرجعيات السياسية والتربوية والديداكتيكية،
وقدمنا تشخيصات علمية في المجال، بل وتقدمنا فيها تقدماً كبيراً، ها هو ذا يريد أن
يفرض رؤيته التحكمية، لكي يعود بنا عن جهل إلى شيء إسمه التعبيرات الخطية والتعبيرات
اللسانية للغة الأمازيغية؛
إن محرر مشروع القانونين لا يلتزمان بأي شيء بالنسبة
للأمازيغية، فجميع المفردات والتعبيرات المستعملة ذات طبيعة اختيارية وتدخل في مدلول
الإمكان وليس في مدلول الإلزام؛ كما أن التواريخ المقدّمة لتعميم الأمازيغية في التعليم
والإعلام والإدارة والحياة العامة إلخ. غامضة وغير ملزمة ولا تنص على مسؤولية من يقوم
بالعمل؛
إن محرر مشروع القانونين يغيبُ مؤسسة المعهد الملكي
للثقافة الأمازيغية ويذوبها بشكل لن يكون لها أي أثر على مسار تدبير السياسات اللسانية
والثقافية بالمغرب؛ بل ويمنح كل الصلاحيات للمجلسين اللذين سيتم ملؤهما كما العادة
بممثلين عن كل الحساسيات العروبية والإسلامية والقومية، ويتم استثناء الحساسية الأمازيغية
التي لا وجود لها بالمطلق في أي مؤسسة ذات طبيعة استشارية أو ذات قوة تقريرية واقتراحية.
إن محرر مشروع القانونين يتوخى من خلال تغييب مؤسسة
المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية تغييب دورها العلمي في مجالات البحث التاريخي وفي
مجالات البحث الأنتروبولوجي والسوسيولوجي إلخ. فليس هناك أي مهمة يمكن أن يقوم بها
المعهد في هذا الإطار ما دام المحرر لمشروعي القانونين لا يشير إلى هذه المجالات بوضوح.
إن واضعي مشروعي القانونين يؤكدون بالملموس أنهم
لا يحترمون قرارات الملك الاستراتيجية ولا يومنون بالحوار مع مكونات المجتمع؛ ولذلك
فإن أخوف ما نخاف منه هو أن هذا التيار عندما سيتحكم بشكل كلي في كل تفاصيل الدولة
سينمطون الشعب في قالب واحد، وسيجعلون من أنفسهم آلهةً دكتاتورية في الأرض هدفها الأساسي
هو التحكم باسم إله لا يوجد إلا في مخيلتهم.
فاللهم نجِّنا منهم ونجّ المغرب من تحكّمهم.
والسلام.