ثمة أحذية، ونِعال، وقباقيب كثيرة ملقاة هنا وهناك في لوحات الرّسّامين؛ بعضها مُثنّى وبعضها مُفرد، قربَ سرير، أو بجانب حوض الحمّام.. بعضها دُسّتْ فيها قَدَمَا الموديل، وبعضها في «دكان الإسكافي» كما في لوحة الأميركيّ ماكس أرنست لسنة 1881. كلّ ذلك حسب سُنن التّشكيل جماليّاً وتاريخيّاً.
لكنّ زوجـيْـن منها، وهما باليان، تحوّلا إلى ما يشبه النّزاع بين المشتغلين بالفنون التّشكيليّة؛نعني «فان غوغ». فستخصّص مجلّة «ماركيلا» Marcula المهتمّة بنقد الفنّ وتاريخه، سنة 1976، عدداً للخصومة التي فجّرها الأميركيّ مايير شابيرو، مؤرّخ الفنّ، ضدّ قراءة هيدجر لحذاء فان غوغ، وستدعو جاك دريدا للمساهمة فيه. وكان فانسون فان غوغ قد رسم ما بين 1881 و1888، سنتين قبل انتحاره، ثماني لوحات يتمثّل فيها حذاء قديماً.
عندما يستحضر هيدجر، في نصّه عن «حذاء فان غوغ»، الذي رآه في معرض بأمستردام سنة 1930، مِشية الفلاّحة على الأرض، وعملها، وأيّامها؛ فكما لو أنّه يُسيِّر الحذاء في فضاء مخصوص، فضاء الرّيف، حتّى يُظهرهُ في الأخير مثل ثمرة لهذا البِلى من فرط ارتدائه في هذا الفضاء. فبالنّسبة إليه، يمثّل هذا الحذاء ذاكرة الخطى المطويّة في الأرياف.
أمّا شابيرو، فسيرى في ذلك نوعاً جديداً من الأوتوبورتريه؛ فلقد كان فان غون، في تقديره، يرسم خطاه السّادرة في المدن، في باريس تخصيصاً. أوَلم تكن اللّوحة مرسومة على صورة أخرى تمثّل مشهداً لشقّة أخيه (ثيو)؟! لقد استخدم فان غوغ نفس القُماشة ليرسم عليها حذاءه الشّهير.
لكن إذا استحضرنا أنّ أب فان غوغ كان راعياً، فقد لا يكون تأويل هيدجر مسقطاً تماماً، كما يذهب إلى ذلك شابيرو. وهناك من يقول بأنّ فان غوغ اشترى هذا الحذاء القديم من سوق أغراض مستعملة بباريس، ثمّ غشّاه ببعض الطّين حتّى يبدو مُتْرباً؛ وهكذا بدا له جديراً بالرّسم.
في سنة 2000، تكتشف مجموعة من الممثّلين نص دريدا. وبعد سنتين، يلتقون بالفيلسوف عينه، ويطلبون منه السّماح لهم بأن يحوّلوا نصّه إلى فرجة مسرحيّة. وفي سنة 2009، تذهب الفرقة إلى متحف فان غوغ بأمستردام لمعاينة اللّوحة الشّهيرة، ليروا إن كانت الأشعّة إكس قد كشفت عن شيء ما فيها! نعم، هناك مرأى لباريس من غرفة ثيو، في نهج «لَبِيك». أمّا الرّباطان، فكأنّهما حافتان للطّريق. فزوجا الحذاء يبدوان في الهواء وكأنّهما لقدم يُسرى مضاعَفة وقد عادا بعدُ إلى أمستردام.
كان العرض في 2013، في مقدّمة الرّكح (المسرح)، طابعة بالألوان تقذف نسخاً من لوحة فان غوغ: زوجا حذاء عسكري مرهق، بأصباغ بنّية - خضراء. في عمق الرّكح (المسرح)، تنتصب شاشة فيديو، تُبثّ منها محاضرة. ثلاثة ممثّلين خلف منضدة. ما من صوت رغم وجود مكروفونات أمام هؤلاء الممثّلين، كما في قاعة دبلجة. وباستخدام الجهاز، لم تعد محاضرة فقط تأمّلية وإخباريّة، بل هي أيضاً أدائيّة بوصفها تجري على أنّها تَمَثّل للفكر. ففي كلّ مرّة يقلب أحد الممثّلين صفحة مكتوبة من محاضرة الفيلسوف، وفي الوقت نفسه يقوم ممثّل آخر بإحداث الضّجيج المصطنع: يدعك ورقة؛ وهكذا يغنم الخطاب الفلسفيّ بُعداً أدائيّاً.
فهل نحن على ركح فلسفيّ، مشدودون إلى منطوق خاص بالمحاضرة؟ أم هل نحن بعدُ في مسرح؟ هذا الجهاز لدبلجة الفكر يضعنا على ركح غير محدَّد، يتموقع في التّقاطع بين المسرح والفلسفة، بين الفكر والأداء حيث تتعلّق المسألة بحوار، خارج التّواريخ، بين فان غوغ، وهيدجر، وشابيرو ودريدا، والممثّلين الأربعة على الرّكح.. في هذه الحوارات ثمّة صراع حول دلالة الحذاء؛ وهو ما يسوّغ تحويلها إلى المسرح. وقد التحق بهذه المناقشة «السّكافيّة»، الأميركيّ، ماركسيّ المنزع في نقده، فريدريك جامسون، حيث يعكس هذا الحذاء، في نظره، بؤس العالَم الإنسانيّ النّاجم عن العمل الرّيفيّ القاسي، فيختزله إلى حالته الأكثر فظاظة، والأكثر تهميشاً. وهو يقول عنه: «فان غوغ يتملّك الموادّ الخامّ للوجود في الأرياف: الفقر المدقع، الفلاّح المنهَك، ثمّ يفجّرها مساحة تخييليّة من الألوان، ومملكة من المعاني».
ما الذي جعل هيدجر يرى في تجويف زوجيْ حذاءٍ آثار تعب الفلاّحة ومكابدتها السّير في الأراضي الموحلة؟ وما الذي جعل شابيرو يرى آثار خطى الرّسّام نفسه؟ ما الذي يجعل درّيدا يتساءل بنبرة سحيقة إن كانا حقّاً زوجيْ حذاء؟
هل كان كلّ منهم يسعى إلى أن يدسّ، فكريّاً، قدميه في زوجي الحذاء ذيْنك؟! ما الذي في زوجيْ الحذاء هذين يستدعي كلّ هذا الحديث حولهما؟ لماذا يثيران حيرتنا؟ ربّما لأنّ لهما القدرة على جعلنا نمشي بحذاء فان غوغ، حتّى نعود إلى أشياء الأرض، فلا يقع في الجبّ، كما وقع طاليس وهو يتطلّع إلى قبّة السّماء..
هكذا تنتعل أرجل الفلاسفة، مفهوميّاً، هذا الحذاء المصنوع تشكيليّاً وتجوب به نصوصاً تأويليّة متلاحقة: من هيدجر 1935، إلى شابيرو 1968، إلى درّيدا 1977.