كثير منا من يعقد مقارنات بين الأمس واليوم ، وكثير منا أيضا من ينتصر إلى حال تعليمنا في القديم ، بل إن السواد الأعظم منا من يتحسر على واقع منظومتنا التعليمية ، وما آلت إليه اليوم . تتقاذفنا مسارات شتى ، غير أنها تتوحد على مستوى سوء تدبير ملف التعليم من الأساس . إن منظومتنا التعليمية ، كباقي منظومات العالم ، مرتبطة بالواقع الذي يعيشه المتمدرس والمدرس على حد سواء . فلا حديث عن تعليم جيد بمعزل عن أطراف فاعلة في هذه المنظومة ، التي تكون منشطرة بين المدرس و المتمدرس والمادة الدراسية أي المعرفة ، التي تقدم كحلقة تؤلف بين الطرفين الأولين .
فهذا المثلث البيداغوجي له
امتدادات شرعية خارجه ، بمعنى أن ما يعيشه المتعلم خارج أسوار المدرسة قد يؤثر
سلبا أو إيجابا على هذه اللحمة الديداكتيكية ، كما أن ما يحياه المدرس خارج هذه
المنظومة ، قد يكون مؤثرا على مسار هذا التفاعل التعليمي . فالإقلاع الحقيقي
والنهوض بهذا المثلث ، إذن ، هو شأن عام . بما هو ـ أي الإقلاع ـ يجب أن يخترق
البنيات المجتمعية أفقيا ، فلا تعليم جيد وسط جماعة حضرية أو قروية فاشلة سياسيا
واقتصاديا واجتماعيا ومفلسة أخلاقيا . وعلى هذا الأساس ، يكون تعليمنا بالوسط
القروي أكثر تجسيدا لهذه العلاقة غير المتكافئة بين واقع منظومة التعليم والغايات
المرجوة منها . إن تعليمنا بالوسط القروي محمول في نعشه الأخير ، و ما نشاهده
اليوم ، يجسد ذلك السقوط المدوي المنتظر ، الذي يكشف عن سوء تدبير ملف التمدرس على
مستوى المجالس المنتخبة ، التي تعاني ، هي الأخرى ، من نقص على مستوى الموارد
المادية .
وبهذا
يكون إصلاح منظومتنا التعليمة مرتبطا شديدا بإصلاحات جذرية للموارد الأساسية ، التي
يعتمد عليها التمدرس . لذا ففك العزلة ، مثلا ، عن العالم القروي ، يكون إحدى
الخطوات الجريئة في الاتجاه الصحيح ، كما أن تزويد القرى و المداشر بالمستلزمات
الضرورية أمر في غاية الأهمية ، ويظل عملا جوهريا يمس المتعلمَ في واقعه المعيشي .
كما أن تقليص الفوارق المجالية بين القرية والمدينة ، بتدخل كل الأطراف المعنية من
وزارة التجهيز و النقل واللوجستيك وغيرها ، يعد خدمة جليلة وحميدة يستفيد منها
المتمدرس والمدرس بطريقة غير مباشرة .
علاوة على ذلك ، من بين أهم
العوامل ، التي تسرع عملية السقوط المدوي ، منظومتنا الإعلامية التي يتردد عليها
المتعلم ، فهي تعج ببرامجَ حاطة من الفكر
والقيم . ومن الملاحظ جدا أن اللغة العربية ، كوسيلة وظيفية ، كانت من بين الأشياء
التي تأثرت ، كعنصر يندرج في منظومة
التواصل عند المتعلم ؛ وهذا ما انعكس سلبا على تعبيراته اللغوية . فالإعلام
، بهذا المستوى ، يجب أن يكون في مصاف منظومة التربية والتعليم ؛ لأن العامية بدأت
تكتسح وتغزو ، بلا هوادة ، مجال التعبير عند المتعلم جراء إغراق البرامج التلفزية بالمسلسلات
المدبلجة إلى العامية .
فضلا عن ذلك ، يعد استقرار
المدرس كذلك شرطا مهما ينضاف إلى العوامل السابقة للرفع من مردودية التعليم وجودته
، واستقرار المدرس ، المادي والمعنوي ، هو استقرار للمجتمع ككل ، والضامن لنمائه
وتطوره . ينجم عن هذا الاعتراف الشامل تجنب المنظومة ، ككل ، انحدارا خطيرا وفشلا ذريعا
، وبالتالي ، كنتيجة لذلك ، إحلال مراتب متأخرة في سلم ترتيب التعليم على المستوى العالمي . ومن ثم فمن المفروض على الوزارة
الوصية أن تعمل جاهدة ، كخيار استراتيجي ، على رعاية هذه الفئة النشيطة داخل
المجتمع . وفي سبيل ذلك ، يجب العمل على إعلاء مجهوداتهم المبذولة ، بالرغم من
الخلل الحاد ، الذي أزمن بمنظومتنا التعليمية .
غير أنه ما شاهدناه ، عبر
وسائط التواصل الاجتماعي ، لواقعة الأساتذة المتعاقدين بالرباط ، من إلحاق وإنزال بهم
العنف والضرر الجسماني إلى درجة التنكيل والسحل في الشارع العام من طرف القوات
العمومية ، هذا ما يتنافى والمواثيق الدولية ، التي وقع عليها المغرب كدولة ذات
السيادة . فعند غياب ثقافة الحوار، و انتهاج سياسة الأذن الصماء يحل محله عدم
الاستقرار والفوضى .
فمن أجل السعي نحو الخروج
من هذا النفق المظلم والمعتم ، والدفع بسفينة منظومتنا التعليمية ، كي ترسو في
مرفإ آمن ، لابد من مد جسور التواصل بين الوزارة الوصية و الأساتذة المتضررين ؛
لإذابة كرة الثلج ، التي تحجب الرؤية والتطلع
نحو المستقبل . وفي هذا الصدد لنا أمل أن نتدارك ما فاتنا بخصوص التعثرات والكبوات
التي لحقت تعليمنا العمومي ، والعودة به إلى جادة الصواب ؛ ليتقدم مغربنا ، ويلحق
بالركب الحضاري ، أسوة بباقي الدول ، التي تعمل جاهدة على نصرة تعليمها ماديا
ومعنويا .
فمادام هناك ضمائر حية و
قلوب وجلة على مستقبل فلذات أكبادنا ، نأمل أن يستوطن الخير الغد القريب . بالموازاة مع ذلك ، يصبح
الأستاذ كالشمعة يحترق من أجل أن يرفع العتمة أمام ناشئة المستقبل .
ماشاء الله عليك
ردحذف