"لازم يغيّر جو شوي وشوفي كيف راح يتغيّر زي السحر"- هذا ما قالته خالتي لأمي ناصحة إياها بأن تصحبنا نحن وأبي الى نزل السيد بيرجر أو بيرج.. لا أذكر في مدينة نهاريا الساحلية في أقاصي الشمال والتي تقع على مرمى حجر من الحدود مع لبنان، والتي كان شاطئها في نهاية سنوات الـ 70 وبداية سنوات الـ80 المُفضل لدى الكثير من العوائل المحترمة وخاصة أنه مغلق ومرفق بحمام سباحة ومجهز بمرافق تختصر على البشر "شرشحة" الشواطئ الأخرى المفتوحة وذلك قبل أن يسطع نجم شاطئ "دادو" في حيفا بعدها بقليل. كنا جميعا أنا وأخواتي ننتظر لحظة التحوّل حال دخولنا إلى النزل، كيف سيحدث هذا التحوّل، كيف سيعود أبي إلى ما كان عليه حال دخولنا إلى الغرفة.. الحقيقة وللدقة أني لوحدي كنت مؤمنًا بهذا وهذا ما اكتشفته فطريًا بعدها بسنوات... عندما كبرت قليلًا!
كان أبي قد هرب من المستشفى بالبيجاما بعد أن أخبروه أنه سيجري عملية جراحية لإزالة حصى في الكلى.. أخبرهم أنه خارج للتدخين في الحديقة، ثم فرّ من هناك.. قالوا إنه سار على قدميه على الرغم من نوبات الكلى من العفولة حتى الناصرة بلباس النوم المخطط بالعرض.. كما قالوا إنه قطع مرج ابن عامر على قدميه عكس المسار الذي جاء في الأغنية التراثية الشهيرة: "قطعن النصراويات مرج ابن عامر... ويوم اللي قطعن المرج..".. قالوا وقتها إنه أصيب بلوثة في عقله بسبب سحر أصابه لأنه عاد سيرًا على الأقدام بعكس الطريق التي تحدّدها الأغنية وبعكس المسار الذي سلكه المسيح والذي قفز من جبل يحيل اسمه إلى كل الحدث.. جبل القفزة... لم يغير أبي بيجامته التي فرّ بها من المستشفى لأيام وأسابيع كما لم يتكلم.. لم تصدر منه أية كلمة منذ عاد إلى البيت، كان كالشبح الذي تصدر منه رائحة بشعة.. كان يتألم ويبكي ويصرخ أحيانًا ولم يعرف أحد مصدر الألم.. هل هو الحزن أم نوبات الحصى؟.. بعد أيام من الصمت جاء جدي ميخائيل إلى بيتنا وأخذ يصرخ على أبي... ماذا ينقصك؟ لقد تزوجت أجمل فتاة في المدينة ومن أحسن العائلات.. ألا يكفي أنك لا تسلك في عمل واحد أكثر من سنة؟
"لازم يغيّر جو"- هذا ما قالته أيضًا إحدى نساء العائلة لأمي...
"خذوه على نزل السيد بيرجر في نهاريا.. قعدة بترّد الروح...". وبما أنني كنت أترجم المجازات وهي كثيرة إلى واقع محسوس جدًا، فقد اعتقدت أنه بمجرد دخول النزل.. ستخرج الروح المريضة الصامتة من الشخص وستحلّ محلها روح سليمة بنية يتوسطها ضوء شمعة دون أن تكون هناك شمعة بالفعل وعندها سيتكلم الرجل ويصبح طبيعيًا... سيتحدث أبي وأخيرًا وسأسمعه يلفظ اسمي.. لقد اشتقت لسماع اسمي يصدر عن أبي.. لا أعرف إن كنت أحبه هو كشخص بقدر ما أحببت سماع اسمي بصوته... كانت ثمة عذوبة في مخارج اسمي لا يمكن تفسيرها.
عندما دخلنا إلى غرفتنا في النزل جلس أبي الذي كان لا يزال يرتدي بيجاما المستشفى، على السرير الذي يشبه أسرة مساكن الطلبة التي كنت سأسكنها بعد ذلك بسنوات كثيرة، كما لم تكن هناك نوافذ ملائمة كي تخرج منها الأرواح أو تدخل... كانت رائحة المكان البني لسمك مقلي بدون أن تكون هناك آثار لقلي أي سمك.. تأمل أبي اللاشيء الذي أمامه وأخذ يبكي... الحقيقة أن كل شيء هناك كان يدعو للبكاء وخاصة رائحة قلي السمك مجهولة المصدر.. اضطربت أمي كما يحدث في مثل هذه الحالات حيث كانت تؤمن بأن على الأبناء عدم رؤية آبائهم وهم يبكون.. فطلبت من أخواتي الأكبر اصطحابي إلى الشاطئ لأننا جئنا أيضًا للاستمتاع بالبحر وما يقترحه من أحلام ورؤى...
في شاطئ بحر نهاريا كانت لديّ الكثير من الزوايا الخاصة ولكن زاوية الكاتيوشا كانت أكثرها خصوصية، فقد كانت بمثابة فوهة صخرية لا أعرف لماذا قررت وقتها أن كاتيوشا التي كانت تشتهر بها نهاريا وقتها (ولم أكن أعرف عندها أن الكاتيوشا هي اسم لقذيفة صاروخية) كانت قد سقطت على جسم صخري متواصل وفغرت فيه حوضًا صغيرًا بحجم حوض المغسلة في بيتنا.. كنت أعشق ذلك الحوض ولا أحدث أحدًا عنه كما كانت الأسماك الصغيرة الرصاصية تسبح هناك دون خوف حيث كنت أمسك بها بين كفتي، أتحدث إليها قليلًا ثم أطلق سراحها قبل أن تختنق...
في حوض الكاتيوشا لم يقتصر الحضور الحي على أسماك رصاصية، بل كان هناك مخلوق أو جسم أشبه بحلوى الجلو التي أتناولها، رغمًا عني، عند جدتي في كل مرة أزورها فيها، لكن لون ذلك الكائن لم يكن أحمرَ كما لم تستقر في قلبه كرة من العنب الأخضر المزعج كما اعتدت (كدت أختنق غير مرة بسبب النواة المستترة في مركز الكرة).. بدلًا من ذلك كان ثمة ضوء خفيف جدًا وخجول في قلب ذلك الجسم المخيف/المثير... إذًا تلك هي الروح التي يجب ردها في جوف أبي.. أحمل قالب الجلو بتوجس.. يلسعني الكائن بذراعي.. لا يهمني.. أبتلع الألم كما علمتني أمي.. أسير متدافعا بلهفة نحو نزل السيد بيرجر لأرد الروح داخل جسد أبي.. لأزف له ما جاد به حوض الكاتيوشا.. عله يردد اسمي مرة أخرى في حياته.. أفتح الغرفة حيث يجلس أبي على السرير ويضع رأسه على ركبة رجل مسن شعره أبيض وعيونه زرق تلمع، كطفل في الرابعة يريد أن يخلد للنوم... يرتدي أبي بيجاما أخرى بخطوط عامودية.. بينما يرتدي الرجل بيجاما أبي...
أسمع اسمي بصوته...
*كاتب فلسطينيّ- الناصرة.