لذا
، كانت منذ بداية القرن العشرين ، محجا حقيقيا ، وقبلة للعديد من الكتاب والأدباء
العالميين ، ليس من باب السفر والترويح عن النفس ، وإنما من أجل عيش في روحانيات
مدينة ، تجعل الزائرَ مشدودا بهذا الفردوس المفقود .
من
يحكي عن طنجة ، يجد نفسه في عزلة تامة عن العالم ، هذا ما قاله بول بوولز الكاتب الأمريكي عن أسطورة مدينة . فبحلول
الثامن عشر من شهر نوفمبر من سنة ألف
وتسعمائة وتسعة وتسعين ، يكون العالم قد فقد أشهر كاتب عاش تجربة غربة حياتية
، دامت ستة عقود من الزمن . ما بين
نيويورك و طنجة ، خطا بول بوولز
خطوة كبيرة نحو التيه في عوالم الأدب والإبداع والصداقة ؛ وكانت ، هذه الأخيرة ، كالطربيد العابر
للقارات .
في
مدينة البوغاز ، لمَّ بوولز حوله العديد من الكتاب والأدباء والموسيقيين
العالميين ، الذين يأتون ، من كل فج عميق ، لزيارته . فقبل أن تسقط صفة الدولية عن
مدينة طنجة ، ذات الإيقاع الموسيقي الزاخم ، زارها الموسيقار الأمريكي الكبير آرون
كوبلاند (1900/1990) ، والذي جعل من الأصوات ، التي تخلفها رياح طنجة وراءها
، وهي تكنس الشوارع والأزقة ، مادة دسمة لمؤلفاته الموسيقية . بَيْد أن إعجابه
بمدينة فاس ، ذات العبق الأندلسي العريق ، هو بمثابة انتصار للهدوء والسكينة ، وكي
يجعل للغربة معان سامية في وجدانه . بالمقابل كانت للباحث والمؤلف وصانع الأوبرا
الكنساسي فرجيل تومسون (1896/1989) زيارات متتالية لمدينة طنجة ،
حاملا معه التنوع الموسيقي الذي تزخر به الولايات المتحدة الأمريكية ، من خلال مزج
أشكال الأوبرا بالرقص الشرقي . فكانت العلاقة ، التي تربط فرجيل ببول
بولز ، قد تعدت حدود الصداقة ؛ لتفتح مسالك وشعابا من التأثير والتأثر ، إلى
درجة دفعت ببوولز إلى البحث عن المفارقات والموازنات الصوتية والنغمية ، التي
تتألف منها الموسيقى الشعبية المغربية . ومن خلالها ، وفي بداية الستينيات ، اتهم بول
بوولز ، من طرف السلطات المغربية آنذاك ، بالعمالة لصالح المخابرات الأمريكية
. أما ترومان غارسيا كابوتي (1924/1984) الروائي الأمريكي الشهير ، فقد
التحق بالشلة ، في مدينة البوغاز مدينة الأحلام ، صحبة الروائية جين أوير
بوولز زوجة المقيم بول بوولز، فكان افتتان ترومان بالمدينة قد تعدى الصدى المألوف ، حيث إنها
أصبحت معقلا لأعماله الأدبية الخالدة . فقد لخص إقامة كابوتي بطنجة بقوله المشهور
" قبل التوجه إلى طنجة ، اسحبوا كل مدخراتكم من البنك ، وقولوا وداعا لأصدقائكم
... الله وحده يعلم إن كنتم سترونهم بعد طنجة . أقول ذلك بصدق ... هنا طنجة ؛ لأنها
مرسى تحتضنكم ، هي مكان في منأى عن الزمن " . إن في هذا كله ما يوضح أن طنجة كانت
طوق نجاة للعديد من الكتاب و الأدباء ، ففي الوصف الذي يحب أن يصف بول بوولز
صوت ترومان كابوتي على أنه شبيه بصوت الماعز ، يقول عنه بول " كان مكتنزا بما فيه الكفاية . له صوت
غريب (صوت ماعزي ) ، وطريقة غريبة في الكلام ، كثير الفكاهة ..." .
في حين نرى في الذين لم يزعجوا سكون طنجة ،
أنهم رحلوا عنها في صمت ، واضعين على عريشها الظليل أكاليل ورود وزهور وياسمين .
وفي ذات السياق ذكر محمد شكري في كتابه " بول بوولز
وعزلة طنجة " أن الكاتب الأمريكي مارك توين (1835/1910) قد أعجب
بمدينة الأحلام طنجة ، بَيْد أنه لم يزمن بها كثيرا ، وقد علق عليها في كتابه
" الغريب البريء " بما يلي : " طنجة هي المكان الذي كنا نرغب فيه
من قديم ... كنا نريد شيئا كاملا و مختلفا تماما ..." . فتوين خلد في
أذهاننا ، ونحن صغار ، رائعته في أدب الأطفال العالمي " مغامرات توم سوير
" ، التي تحكي عن الصبي توم ومغامراته ، قبل الحرب الأهلية الأمريكية
، جنوب نهر الميسيسيبي .
طنجة منذورة لريحها الأبدية ، أزمن فيها العديد من كبار الأدباء العالميين
، ونحتوا على جداراتها لوحات عشق وحب ووله جنوني ؛ ممزوج عادة بالأمل والألم . في
حياة طنجة نوارسُ كانت تظهر وتختفي ، كثعالب الصحراء . فحتى بعدما أسقطت عنها
صفتها " منطقة دولية " بعد 1960 حافظت على تراثها الإنساني الكبير ،
فأيَّا كانت التحولات العميقة ، التي صاحبت هذه المنعطفات التاريخية في حياة طنجة
، فإنها حافظت على هدوئها و نضارتها في وجه هذا الزمن .